ويُؤيد ذلك ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((كل بني أنثى ينتسبون إلى أبيهم غير إبنَي فاطمةَ فأنا أبوهما وعَصبتهما)) فصحّ أنهما أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يُنازعهما أحدٌ في ادّعاء الأمر من بني هاشم، وفي الإشارة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحسن والحسين: ((من أحبهما في الجنة ومن أبغضهما في النار)). وعن أبي هريرة قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي وفاطمة والحسن والحسين فقال: ((أنا حرب لمن حاربهم ، سلمٌ لمن سالمهم)). وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((جاءني ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قبل ليلتي هذه ، فاستأذن ربّه عزّ وجلّ أن يُسلّم عليّ فبشَّرني (أو فأخبرني) أن الحسن والحُسين سيِّدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيِّدة نساء أهل الجنة)).
وروي عن النبيء صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا )). وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان وأبوهما خير منهما )) فصحّ أنهما أولى الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أبيهما، وأن النص في إمامة علي، والحسن، والحسين، دون غيرهم. وثبت أيضاً أن الحسن الإمام ـ في عصر أخيه ـ القائم، لكبره، وتقدُّمه، ودعوته، وتسليم [أخيه] الأمر إليه.(1/501)
وكان من دعوته عليه السَّلام: أنه لما قتل والدُهُ أمير المؤمنين، وغسّله، وكفَّنه، وقبره، وضُربت عنق ابن ملجم -لعنه الله، صعد المنبر فخطب الناس ونَعَى عليًّا عليه السَّلام، فقال في خطبته: (إن رجلاً من أعداء الله، المارقة عن دينه اغتال أمير المؤمنين ـ كرم الله وجهه ومثواه في الجنة ـ في مسجده، وهو خارج لتهجُّده في ليلة يرجو فيها مصادفة ليلة القدر، فقتله، فيا لله من قتيلٍ، فأكرم به وبروحه من روح عرجت إلى الله بالبرِّ والتقوى والإيمان، والهدى والإحسان، لقد أطفأ به نُور الله في أرضه، وهدم ركناً من أركان الإسلام، لا يُشاد مثله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسب مصيبتنا في أمير المؤمنين، ورحمه الله يوم وُلدَ ويوم قُتلَ ويوم يُبعث حيًّا). ثم بكى حتى اختلجت أضلاعه ثم قال: (وقد أوصى بالإمامة إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنه وسليله، وشبهه في خلقه، لأن يجبر الله به ما قد وهى، ويسد به ما ثلم، ويجمع الشمل، ويطفئ نار الفتنة، فبايعوه ترشُدُوا).(1/502)
فبايعه الشيعة كلهم، وهرب قومٌ فلحقوا بمعاوية، وأرسل معاوية إلى الذين بايعوه، فلم يزل يعمل فيهم بالكتب حتى خذلوه، ودخل عليه قومٌ منهم فطعنوه بخنجرٍ، وأرادوا قتله وقتل أخيه وأهل بيتهما، وكان قد خرج من المدينة في حرب معاوية، فكتب إليه معاوية لعنه الله يسأله الرجوع إلى المدينة والمهادنة، ويلزم كما لزم أبوه في عصر أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى أنه يحكم في أمة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم بالكتاب والسنة، وعلى انه يدفع الخُمس إليه الذي أوجبه الله لبني هاشم، كما كان يُدفع إلى أبيه في وقت أبي بكر وعمر وعثمان، ففعل ذلك، وهادنه لما عدم الأنصار، ورجع المدينة هو وأخوه ومن كان معهما، فما زال معاوية لعنه الله يعمل فيه حتى قتله بالسم.
ثم مات معاوية، وولّى أمره ولده يزيد لعنه الله، وهو أول من أظهر الفسق وشرب الخمر في الإسلام، ثم إن قوماً من أهل الكوفة استدعوا الحسين بن علي عليهما السلام وبايعوه ووعدوه بالنصر، فخرج إليهم ووالِيَ البلد عبيد الله بن زياد من قبل يزيد بن معاوية لعنهم الله، فحاربه حتى قتله بكربلاء ـ وأهل بيته، ووجّه بحُرمه وبرأسه إلى يزيد بن معاوية، وردّهم يزيد إلى المدينة. فجاهدا عليهما السلام، ولم يتركا لله عليهما حُجّة، وفُعل بهما كما فُعل بالأنبياء والأئمة من قبلهما.(1/503)
فصل في الكلام في الأئمة من بعدهما
وقد قدّمنا الكلام في إجماع الأمة على أن الإمام [هو] الجامع للمحامد؛ منها: القرابة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودللنا على أن الحسن والحسين أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكما كانا أقرب الناس إلى رسول الله كذلك أولادهما.
ومن طريق النظر أن الإمامة لو كانت في جميع الناس لأدّى ذلك إلى الفساد والإلتباس، ولَوُضِعَ الشيء في غير أهله، ورُدّ الفرعُ إلى غير أصله، ولعسر على الناس طلبُ الإمام، وكان في ذلك فساد الإسلام، وكثُر المُدّعون للمقام وكان ذلك سبباً لتعطيل الأحكام. وأيضاً فقد جرت سُنّة الله في الأوّلين بتقديم ذرية النبيئين صلوات الله عليهم أجمعين. فصحّ أن الإمامة في ولد الحسن والحسين محصورةٌ، وعلى غيرهم محظورة. والذي يدل على ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }[الشورى:23]، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء:59]، وقد وصّى بمودة ذوي القربى وهي أجرُ الرسالة، فصحّ أن ذوي القربى هم أولو الأمر.(1/504)
وقد دللنا على أن أولاد الحسن والحسين أقرب ذوي القربى، فثبت أنهم وُلاة الأمر، وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}[فاطر:32]، فصحّ أن أهل الصّفوة الذين أورثهم الله كتابه همُ الذين أمر الله بمودّتهم؛ وهم: علي والحسن والحسين وأولادهما.
وقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} فإنه أراد أنه منهم في النسب، وقد ظلم نفسه وأخرجها من الطاعة لربه إذ لم يحل بينه وبين ما أراد الله منه إلا نفسه، وهو العاصي لربِّه المضيِّع لحقِّه.
وقوله: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} يريد أن منهم من لم يبلغ درجة الإمامة، وهو من حدِّ العالم الذي لم يدّع الإمامة إلى حدِّ المتعلِّمِ المطيع لربِّه، وكل هؤلاء مقتصدٌ عن درجة السّبق، وليس اقتصادهم بسواءٍ، منهم من لم يمنعه من القيام إلا عدم الأنصار، ومنهم من هو دون ذلك.(1/505)