وعُقر بعير عائشة، فأمر أمير المؤمنين عليه السَّلام ولده الحسن ومحمد بن أبي بكر أن يمنعا حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففعلا، وأمر معهما عمار بن ياسر، والأشتر النّخعي، وسعد بن قيس الهمداني، ونصره الله عليهم، وقُتل طلحة بن عبيد الله، وفرّ الزبير بن العوّام، فبات عند عُمير بن جرموز فقتله، فأنكر ذلك عليه أمير المؤمنين عليه السَّلام وقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((بشِّروا قاتل ابن صفية بالنار )) ثم عاد إلى المدينة، فأقام بها مُدّة، ثم خرج إلى الكوفة في قتال معاوية، فدعاه إلى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبى أن يُجيبه، فكان بينهما من الحرب ما قد اشتهر وظهر على الناس، إلى أن كان آخر أيّام صِفّين، وأشفق معاوية من علي عليه السَّلام، ووقع أكثر القتل في أصحاب معاوية، قيل: إنه قُتِلَ منهم خمسةٌ وسبعون ألفاً، ومن أصحاب عليٍّ خمسة وعشرون ألفاً، ثم إن معاوية -لعنه الله- أمر عمرو بن العاص -أخزاه الله- فجعل المصاحف على الرماح، وأمر من يحملها أن يقول: بيننا وبينكم كتاب الله وسُنّة رسوله، فكفّت أصحابُ عليٍّ عليه السَّلام، فقال لهم عليٌّ: (إنها كلمة حق يراد بها باطل) فلم يقدموا عليهم بعد ذلك، فأقبل على أمير المؤمنين عليه السَّلام أصحابه وسألوه المحاكمة فقال: أنا أحكِّمُ عبد الله بن العباس. فأبوا إلا أبو موسى الأشعري لعنه الله. وحكّم معاوية عمرو بن العاص لعنهما الله، فخدع أبا موسى الأشعري وقال: إن عليًّا ومعاوية قد سفكا دماء المسلمين، وشقّا العصا، وأهلكا الناس، وأنا أرى(1/496)


أن تخلع صاحبك عن الأمر، وأخلع صاحبي. فساعده أبو موسى إلى ذلك، وقدّمه عمروٌ فقال للناس: إنه قد خلع عليًّا عن الأمر، وقال عمرو: قد ولّى معاوية الأمر، فقال أبو موسى له: خدعتني. فأجازها عليه. فافترقت أصحاب علي عليه السَّلام، فاستقام معه المخلصون لله، ونفر عنه أكثر الناس، فاختلفت الناس في الحكمينِ على خمس مقالاتٍ:
فقالت الخوارج: الحكمان قد كفرا، وكفر عليٌّ عليه السَّلام حين حكّمهما، وعلتهم قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }[المائدة:44]، وفي تكفير علي عليه السَّلام بتركه القتال، وقد قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ }[الحجرات:9] وتركُ القتالِ كفرٌ.
وقالت الإمامية: إن عليًّا عليه السَّلام حكّم للتّقية، والتُّقية تَسَعُهُ لِمَا يخاف على نفسه، واعتلوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان للتّقية يكتم الدين في أول أمره.
وقالت الزيدية، والمرجئة، وإبراهيم النظام، وبشر بن المعتمر: إن عليًّا عليه السَّلام كان مُصيباً في تحكيمه الحكمين، وأنه إنما حكّم حين خاف على عسكره الفساد، وكان الأمر عنده بيِّناً واضحاً، فنظر للمسلمين ليُتَابِعَهُمْ، وإنما أمرهما أن يحكما بكتاب الله، فخالفا، فهما اللذان اخطئا وأصاب هو، واعتلوا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وَادَعَ أهل مكّة، وردّ أبا الجندل بن سهيل بن عمرو وتحول في قيده.(1/497)


وقالت الحشوية: نحن لا نتكلم في هذا، ونَرُدّ أمره إلى الله تبارك وتعالى، والله أعلم به حقًّا كان أو باطلاً.
وقال أبو بكر الأصم: نفس خروجه كان خطأً، وتحكيمه خطأً، إلا أن أبا موسى أصاب حين خلعه، حتى يجتمع المسلمون على إمامٍ.
وقال سائر المعتزلة: إن كل مجتهدٍ مصيب، وعليٌّ قد اجتهد، ولسنا نتَّهِمُهُ.
فهذا ما قيل في الحكومة، والصحيح عندنا أنه غُلِبَ على أمره وأُلجِئَ إلى قبولها، كما غُلب على الأمر في أيام أبي بكر وصاحبيه وأُلجئ إلى القعود. ثم كان من قتله أهل النهروان ما قد اشتهر لتكفيرهم له وخلافهم عليه. ثم قتله اللعين ابن ملجم -لعنة الله- عليه ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلةً من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين مُنذ قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي سنة إحدى وأربعين من الهجرة. وخرج عليه السَّلام لتهجُّده لمصادفة ليلة القدر.
وأجمعت شيعته عليه السَّلام على القول: بأنّ مُخالفه من أهل النار، وكذلك قال أكثر المعتزلة، ومن شيعته من حَكَمَ على مخالفه بالكفر.
واختلفوا في القول فيمن تقدّمه أو قدَّم عليه.(1/498)


فقال أبو الجارود، ومن قال بقوله من الزيدية: عليٌّ وصيُّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام بعده بلا فصل، وأن الأمة قد كفرت في تركها بيعته. ثم الإمام بعده الحسن والحسين بالنّص، ثم هي بينهم شُورى، فمن خرج من أولادهما مستحقًّا للإمامة فهو الإمام. وكذلك قالت الصالحية [أصحاب] الحسن بن صالح بن حيّ ومن قال بقوله في الإمامة، إلا أنهم قالوا: إن أبا بكر وعمر غيرُ مخطئين، بسبب سكوت علي عليه السَّلام عن حقِّه، وكذلك عثمان إلى أن تبرّأ منه المسلمون، وتوقف فيه بعد ذلك.
وكذلك قال ابن التّمار ومن قال بقوله من الزيدية، إلا أنهم تبرّؤا من عثمان بعد ما عزله المسلمون، وشهدوا على من خالف عليًّا بالكفر.
وقال سليمان بن جرير ومن قال بقوله في علي والحسن والحسين مثل ذلك، وأن بيعة أبي بكر وعمر خطأٌ، لا يستحقان عليه إسم الفسق من قِبَلِ التأويل، وتبرّءوا من عثمان، وشهدوا عليه بالكفر.
وقالت الإمامية في علي والحسن والحسين مثل قولنا، وأثبتوا النَّص، وقالوا: لا يكون الإمام إلا منصوصاً عليه من نبيءٍ أو وصيٍّ أو إمامٍ، وسنذكر الرد عليهم في موضعه، إن شاء الله تعالى.
وعندنا أن من تقدّم على أمير المؤمنين عليه السَّلام، أو قدّم عليه غيره بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد ظلمه، وجحد حقه، وفسق، وهو كافر نعمةٍ، فاسقٌ ظالمٌ، وقد تهدَّد الله الظالمين بالنار والخزي والبوار، وقد صحّ أنهم ظلموه حقّه، وأنكروه سبقه، غير جاهلين ولا شاكِّين، وكذلك من قدّم على الحسن، والحسين، والصّالح من أولادهما".(1/499)


فصل في الكلام في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام
وقد قدّمنا الكلام من العقل والإجماع أنه يجب أن يُقدّم في الإمامة الأفضل من الأمة؛ والأفضل: من جمع وجوهاً من المحامد لا يجمعها غيره.
منها: القرابةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشبه به بالنص.
ومنها: العلمُ، والدّين، والورع، واليقين، والزهد، والكرم، وطيب المولد، وحُسن الشّيم.
والأمة مجمعة على أنه ما كان في عصرهما ـ بعد أبيهما ـ أجمعُ لهذه المحامد منهما، فأما القرابة فلأنهما من ذريّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونسلهِ؛ ولأنهما ابنا ابنته وولدا ابن عمِّه.
والذي يدل على أن ابن البنت من الذريّة قول الله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ، وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأنعام:84-87]، فبيّن أن عيسى عليه السَّلام من ذريّة إبراهيم عليه السَّلام بسبب أمّهِ. والحسن والحسينُ إلى محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أقربُ من عيسى إلى إبراهيم صلى الله عليهما، فصح أنهما من ذريته ونسله.(1/500)

100 / 115
ع
En
A+
A-