خصائص هذا الكتاب الذي بين يديك
وكان من التأليفات هذا المؤلف الجليل الذي بين يديك، الذي ألّفه وجمعه الحاكم الإمام المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي، وكان لهذا المؤلف العظيم الأثر البالغ الكبير والموقع الخطير في تاريخ الفكر والتراث الإسلامي من عدة نواحي:
* أولاً: أنه يربط بين القرآن وبين أهل البيت عليهم السلام من خلال أنه يبين الآيات النازلة فيهم، ثم يؤكد صحة ذلك من خلال السنة النبوية على صاحبها وآله أفضل الصلاة والسلام، وعلى ذلك دلّنا المؤلف رحمة الله عليه حيث يقول في المقدمة: "وألحقت بكل آية ما يؤيدها من الآثار".
* ثانياً: أنه جعل معتمده في التفسير السنة النبوية، فهو يفسر القرآن بالسنة، وهذا مما يؤكد لنا صحة تفسيره، لأنه من أقوى طرق التفسير الدالة على الصحة أن يُفسر القرآن بالسنة .
* ثالثاً: أن المؤلف رحمه الله قد بلغ في علوم السنة التي هي علوم الحديث مبلغاً عظيماً، يشهد لنا بصحة ذلك ما يرويه لنا من السنة المطهرة، إذْ قد بلغ أعلى مراتب الحفاظ، وألمّ بعلم الحديث إلماماً عظيماً، حيث أنه بلغ رتبة الحاكم، ورتبة الحاكم أعلى مراتب الحفاظ كما صرّح به المحدثون وأهل هذا الشأن، فعلى كل حال المؤلف رحمه الله أحاط بالسنة رواية ودراية، وتصحيحاً وتضعيفاً، وتأويلاً وجرحاً، وتعديلاً ورجالاً، وغير ذلك.
وهذا مما يؤكد صحة ما يرويه وسلامته من الضعف، بالإضافة إلاَّ أن ما يرويه موافق للقرآن غير معارض لآيات الفرقان، وهذا من أقوى علامات صحة الحديث.(1/16)
* رابعاً: أن المؤلف رحمه الله يذكر أقوال المفسرين في الآية واختلافهم في سبب نزولها، ثم يضيف كل قول إلى قائله، وينسبه إلى صاحبه، ثم يرجّح القول الصحيح من تلك الأقوال، ثم يؤكّد صحة ترجيحه بالدليل إمَّا العقلي أو القرآني أو السنة أو الإجماع كما سنعرف ذلك من خلال كتابه، وقد يستنبط من بين الأقوال المختلفة قولاً يكون كل من المختلفين قائلون به ومجمعون على دخوله ضمن تلك الأقوال، وهذه الطريقة التي سلكها المؤلف رحمه الله تبين إنصاف المؤلف وبحثه عن الحقيقة، وفيها إعانة أيضاً لطالب الحق على تسهيل طريقة البحث.
* خامساً: أن المؤلف رحمه الله تعالى بعد أن يذكر الآية وأنها نازلة في شأن أهل البيت عليهم السلام يذكر ما تدل عليه الآية من الفضيلة أو الإمامة أو وجوب الرجوع إليهم، أو وجوب سؤالهم، أو وجوب التسليم لحكمهم، أو وجوب اتباعهم، إلى غير ذلك من الأوجه التي حثّ عليها القرآن تجاه أهل البيت عليهم السلام، ثم بعد ذلك يذكر بعض الأدلة التاريخية التي تبين أن أهل البيت عليهم السلام يستحقون تلك الفضيلة، وأنهم مرادون بها ومعنيون بها، كما ستلاحظ ذلك من خلال الكتاب.(1/17)
* سادساً: أن المؤلف رحمه الله تعالى ذكر مع فضائل أهل البيت عليهم السلام بعض مثالب أعدائهم، وبعض الآيات النازلة في أعدائهم، ليحصل للناظر بعين النصفة استحالة المساواة بين أهل البيت عليهم السلام وبين أعدائهم، وليقارن الناظر والمطلع بين مَنْ نزل القرآن مادحاً له ومثنياً عليه، وبين من نزل القرآن ذاماً له ومتجرماً عليه، وبين من أتى القرآن بفضائله، وبين من أتى بمثالبه، ويقارن أيضاً بين من يمشي حسب الأوامر القرآنية، وبين من يمشي مخالفاً ومتعدياً على حدود القرآن، وبين من يستحق أن يكون قريناً للقرآن، وبين من يستحق أن يكون عدواً لدوداً للقرآن، إلى غير ذلك من أوجه المقارنة .
* سابعاً: ما تمتّع به هذا المؤلف من دقة التعبير، وسهولة الألفاظ، وأسلوب الربط بين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والقصص التاريخية والأدلة الواقعية التي ترغّب القارئ أو المطلع في المطالعة والقراءة بدون أي ملل أو تعب، وهذا يدل على اتساع البسطة العلمية لدى المؤلف مع استخدام الأسلوب الحسن، والتعبير الجزْل، والطرق المسببة في فهم مقاصد المؤلف من خلال إشارته المُفْهِمة من إثبات فضيلة، أو رد شبهة، أو تأكيد دلالة، أو غير ذلك مما يحتاج إليها المؤلف .
فهذه بعض الأوجه المرجّحة لهذا الكتاب والمرقية له إلى أعلى طبقات التأليف، والتي جعلت له الأثر البالغ في التاريخ الإسلامي والتراث الفكري .(1/18)
دور الكتاب في بناء العقيدة
وأيضاً فإن لهذا الكتاب دور كبير وأثر بالغ وموقع خطير في تربية وبناء العقيدة الإسلامية الصحيحة السليمة الحقّة؛ من حيث أنه يجب اتباع القرآن، وقد علمْنا ارتباط أهل البيت عليهم السلام واقترانهم بالقرآن، فيجب اتباعهم كما يجب اتباع القرآن، لأنهم المترجمون للقرآن، والقائمون بأوامر القرآن، والواقفون عند حدود القرآن .
ويجب القبول عنهم كما يجب القبول عن القرآن، لأنهم المكملون للقرآن، والمجددون لشرائع القرآن .
ويجب الأخذ عنهم وسؤالهم كما أُمرنا بذلك القرآن، ويجب الرد إليهم عند الإختلاف، والتسليم لحكمهم، والعمل بقولهم، كما يجب الرد إلى القرآن وإلى الرسول، والتسليم لحكم القرآن والرسول صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم .
فكل ما يجب علينا للقرآن من التعظيم والتسليم وغير ذلك فهو يجب علينا تجاه قرناء القرآن والثقل الأصغر الذين هم أهل البيت عليهم السلام، فإذا أخذ الإنسان علْمه عنهم وقبل قولهم، دلّوه على الحق والصدق، وزجروه عن الضلال والهوى، وسلم المهالك والردى، كما قد أمّننا من ذلك جدهم المصطفى صلوات الله عليه وآله حيث يقول : ((عليكم بأهل بيتي فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ضلالة أوردى))، في أحاديث غير هذا كثيرة ستمر بك إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب.
فالكتاب هذا: يبين لنا هذه الطائفة مَنْ هي؟ وما هي فضائلها ؟ وما الواجب علينا تجاهها؟ وما حكم من خالفهم وعاداهم ؟ أو أخذ علمه وهداه من غيرهم ؟ أو سلك غير سبيلهم ؟(1/19)
وفي الأخير لا يسعني إلاَّ أن أقدم النصحية الأخيرة للمطلع الكريم بأن يخلع عن نفسه قيود التعصب والتقليد، واتباع الأهواء والشهوات والأطماع، وينظر لنفسه فيما يخلّصها عند بارئها، ويقف موقف المنصف من نفسه، الباحث عن الحق، المتقبل للحق، ولو كان مع أقصى الخلق أو أدناهم، مهما وذلك موافق لأمر الله وإرادته ومشيئته، فكيف إذا كان الحق مع أشرف الخلق وأكرمهم في الجاهلية والإسلام، ويعد الإنتماء إليهم والإنتساب إليهم فخر وشرف وعز وفوز.
ــــــــــــــ
ترجمة المؤلف رحمة الله عليه
هو الإمام الحاكم شيخ الإسلام، الحافظ المحدث، المتكلم المفسر القارئ، النحوي اللغوي، أبو سعد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي البروقني، علَم من أعلام الفكر الإسلامي، وإمام من أئمة الإسلام في شتى فنون العلم، متكلم مفسر أصولي.
قال في المستطاب للعلامة يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد: "الشيخ الإمام الحاكم أبو سعيد المحسن بن كرامة الجشمي البيهقي، كان مولده في شهر رمضان من سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، وهو علامة عصره وفريد دهره في علم التفسير وعلم أهل العدل والتوحيد، وشهرته ظاهرة، وكتبه شاهدة له بالتبريز " انتهى.
قال صاحب طبقات الزيدية إبراهيم بن القاسم: "المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي، الشيخ الإمام الحاكم، أبو سعد الجشمي - وجشم بالجيم وشين معجمة قبيلة من خراسان، وبيهق أكبر قرى خراسان- كان حنفياً، وانتقل إلى مذهب الزيدية" انتهى.
وقال القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال في مطلع البدور: "الشيخ العلامة أستاذ أستاذ العلامة الزمخشري، الحاكم أبو سعيد المحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي، كان إماماً عالماً صادعاً بالحق" انتهى.(1/20)