ولما كانت أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأمم التي ابتُليت بأشد الإبتلاء، وحُمّلت تكليفاً عظيماً من حيث التفضيل، حيث أن الله تعالى جعل موضع التكليف ومحطّ الإبتلاء والإختبار في قوم مخصوصين وطائفة معينة، أَمَرَ الأمة بالرجوع إليها، وسؤالها، ومتابعتها، والإئتمام بها، والإئتمار لأمرها، وخصّ تلك الطائفة بفضائل متكاثرة نطقت بها آيات الذكر الحكيم، ورُويت على لسان النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين، وكان لله عز وجل في تلك الطائفة سرّ عظيم، وخبية لا يعلمها إلاَّ هو، ولهذا جعلهم الأمان إلى يوم القيامة وإلى انقطاع التكليف، ولهذا قرنهم بالكتاب الكريم، كان من أمة محمد صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم من امتثل أمر الله ولازم تلك الطائفة وتابعها إرضاءً لله، وطاعة ووقوفاً عند أمر الله، فبذل نفسه وماله وولده رخيصة في سبيل إتباع أمر الله والإنقياد والخضوع، ففاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، ومنهم من وَرَمت أنفه، وغضبت نفسه، وغلب عليه كِبره، واتبع شيطانه وهواه، وانقاد لشهواته ودنياه، ولم يتواضع لمن أمره الله بالتواضع لهم، وأَنِف من متابعة من أمره الله بمتابعتهم، لهوى في نفسه، وجهل غلب على عقله، وضلال خالط لحمه ودمه، وكبر احتوى عليه قلبه، وعصبية طغت على لُبه، فغرق في بحر الضلالة، وارتطم في مهاوي الجهالة، فاشتبه عليه دينه، والتبس عليه يقينه، وخرج من اليقين إلى الشك، ومن الإيمان إلى الشرك، ومن الحق إلى الباطل، فكان جزاؤه الوبال والخسران في الدنيا والآخرة.
وهذه الطائفة التي أمرنا الله باتباعها، ولزوم منهاجها هي الطائفة التي أُلّف هذا الكتاب الذي بين يديك من أجلها، ليتبين للجاهل أنها ملازمة للقرآن، ويتنبه الغافل عن مخالفته للرحمن، ويزداد صاحب الحق إلى يقينه يقيناً، وإلى إيمانه إيماناً.(1/11)


الحاجة إلى علم التفسير
هذا ولما كان القرآن الكريم هو الحجة الكبرى، والنعمة العظمى، على جميع العباد، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد، وكان مرجعاً متفقاً على حجيته بين جميع الطوائف، الموافق منها والمخالف، وكان كل المسلمين مجمعين على لزوم متابعته، وحرمة مخالفته، وأن من ردّ آية من القرآن فقد كفر، مع اختلاف المذاهب والفرق، وتشتت الأهواء والطرق، سارع كثيرٌ من علماء الأمة إلى التأليف في علم التفسير، والتدوين في علوم القرآن، نظراً منهم إلى أن القرآن الكريم مشتمل على كثير من الأحكام، ففيه المحكم والمتشابه، وفيه الناسخ والمنسوخ، وفيه المجمل والمبين، وفيه المطلق والمقيد، وفيه العام والخاص، وفيه الأوامر والنواهي، إلى غير ذلك من الأحكام المختلفة، وكان فهم القرآن ومعرفة أحكامه لا يتم إلاَّ بإرجاع المتشابه إلى المحكم حتى لا يقع في القرآن التعارض والتناقض، ولا يتم أيضاً إلاَّ بمعرفة الناسخ والمنسوخ، وبعد تبيين المجمل وتقييد المطلق، وتخصيص العام، وكان معرفة ذلك متوقف على معرفة علوم كثيرة نذكر بعضها على جهة الإختصار لأن المقام ليس مقام بسط للكلام عليها وإنما جر إليه البحث.
بعض العلوم التي نحتاج إليها في التفسير
فمن تلك العلوم التي نحتاج إليها في فهم التفسير ما يلي:
* أولاً: علم السنة(1/12)


فإن السنة النبوية تأتي في الدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في الحجية والمرجعية وتبيين الأحكام وغير ذلك، والسنة النبوية هي أحد الطرق المفسّرة للقرآن الكريم والمبينة لأحكامه، ولها دور مهم جداً أيضاً في تبيين المجمل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، فكم من آية مجملة في القرآن مبيّنة في السنة، وموضع هذا البحث أصول الفقه.
* ثانياً : علم الأثر
فإن أقوال الصحابة والتابعين لها دور هام أيضاً في تبيين مقاصد القرآن الكريم لقرب عهدهم من رسول الله صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم وحضورهم مشاهد نزول الآيات، وعرفوا أغراضها ومقاصدها عن قرب، خصوصاً أقوال أمير المؤمنين علي عليه السلام فإن قوله حجة، وهو بمنزلة الخبر الآحادي، وعلى ذلك إجماع أهل البيت عليهم السلام لأقوال الرسول صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم الدالة على ذلك، كقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : ((علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي، اللهم أدر الحق حيثما دار علي))، وفي رواية : ((لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض))، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة المتواترة.
* ثالثاً : علم أسباب النزول
فإن أسباب النزول لها أهمية بالغة في معرفة فهم القرآن ومقاصده، ولهذا اشترط كثير من علماء الأمة على من يُقْدم على علم التفسير بمعرفة أسباب النزول، بل جزم بعضهم بأنه لا يجوز الإقدام على التفسير لمن جهل أسباب النزول.(1/13)


ولهذا فإن أمير المؤمنين علياً عليه السلام اعتنى بعلم أسباب النزول عناية بالغة، حيث كان يذكر متحدثاً بنعمة الله في الخطب والمجامع علمَه بأسباب النزول، ويجعل ذلك من الخصوصيات التي اختصه الله بها، فقد روي عنه صلوات الله وسلامه عليه – بطرق صحيحة – أنه قال : (والله ما نزلت آية في بر أو بحر أو سهل أو جبل أوليل أو نهار إلاَّ وأنا أعلم فيمن نزلت ؟ ومتى نزلت؟).
وروي عنه هذا بألفاظ مختلفة، وهذا يدل على أهمية علم التفسير بالنسبة لمعرفة تفسير القرآن.
* رابعاً: علم العربية
فإن القرآن الكريم نزل بلغة العرب معجزاً ومتحدياً للعرب، وبلغ منتهى الفصاحة والبلاغة والبيان في هذا الباب، فكان لعلم العربية والعلم بمقاصدها ومغازيها دورها في توضيح القرآن الكريم من ناحية معاني مفردات الكلمات، ومن ناحية التفسير، لتوقف فهم المعاني على معرفة اللغة العربية، وأيضاً فإن البلاغة تُعْتبر جزءاً من علم اللغة، ولها الأهمية البالغة في معرفة القرآن، كأوجه التشبيه، وكم في القرآن الكريم من آيات فيها الإستعارة والمجاز وغير ذلك من أبواب البلاغة.
إذا تمهّد هذا فإنا نلاحظ أن الباحثين في علم التفسير اعتنوا به اعتناء بالغاً، فمنهم من قام بالتأليف والتدوين في علم التفسير من جميع نواحيه وجوانبه جامعاً فيه بين أسباب النزول، والأوجه البلاغية في القرآن، والناحية الإعرابية، واستخراج الأحكام الشرعية من الآيات، وذكر أقوال المفسرين واختلافهم في الآيات ونسبة كل قول إلى قائله .(1/14)


ومنهم من ركّز في علم التفسير على أسباب النزول إما عموماً في القرآن الكريم، وإما خصوصاً في مواضع معينة، ومنهم من ركّز في علم التفسير على ما ورد عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومنهم من ألف بخصوص الناسخ والمنسوخ من القرآن، ومنهم من ألّف بخصوص المواضيع الفقهية باحثاً فيه عن الأحكام الشرعية المستخرجة من آيات الأحكام، ومنهم من ألّف ودوَّن مُرَكزاً على الناحية الإعرابية والأوجه البلاغية، وغير ذلك من علوم التفسير المتنوعة.
هذا: ولما كان لعلم أسباب النزول الأهمية البالغة والحظ الوافر في اعتناء المفسرين فأكثر المؤلفات التي ألّفت كان موضوعها أسباب النزول، ولو تقصيناها وذكرناها لطال بنا البحث والمقام.
وقد اعتنى جماعة من المحدثين والحفاظ والعلماء والعاملين الأعلام بجمع الآيات النازلة في شأن أهل البيت عليهم السلام والإشادة بفضائلهم، والآيات النازلة في شأن أعداء أهل البيت عليهم السلام، وكانت الأسباب الدافعة للمؤلفين إلى تأليف هذه المؤلفات: هو تعريف الناس بفضائل من جعلهم الرسول صَلّى الله عَليه وآله وسَلّم قرناء القرآن، وأقامهم مقامه على الخلافة في أمته من بعده، كما ذكر ذلك المؤلف رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه حيث يقول: "وكان صلوات الله عليه وعلى آله طول عمره يبشرهم بما يخلف فيهم من بعده مرَّة تصريحاً ومرة تلويحاً، وتارة بالإشارة وأخرى بالعبارة، ينص عليه ويأمر بالتمسك به والرجوع إليه، يذكر ذلك في خطبه ومقاماته، ووصاياه ومخاطباته، ثم أكّد ذلك عند انتقاله إلى رحمة ربه وكريم ثوابه" انتهى.(1/15)

3 / 44
ع
En
A+
A-