سورة الأنعام
[الآية الثامنة عشرة]: قوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام:26].
قالت الناصبة: إنها نزلت في أبي طالب كان يمنع الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يتبعه، ورووا ذلك عن عطاء(1)، ومقاتل(2)، وربما يروونه عن ابن عباس.
[الأدلة على إسلام أبي طالب]
ورووا عن مقاتل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمع الملأ من قريش عنده يريدون سوءاً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويسألون أبا طالب تسليمه إليهم فأبا وأنشا يقول:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم .... حتى أوسد بالتراب دفينا
فاصدع بأمرك ماعليك غضاضة .... أبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي .... فلقد صدقت وكنت قبل أمينا
وعرضت ديناً قد علمت بأنه .... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة .... لوجدتني سمحاً بذاك أمينا
قال: وروي أنه لما توفى جاء علي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبره بموته قال: اذهب فواره.
ورووا أنه تشفع له حتى يكون في ضحضاح من النار فالجواب:
__________
(1) عطاء بن أبي رباح، واسمه أسلم المكي، أبو محمد القرشي، مولى ابن خشيم، ولد في آخر خلافة عثمان، ونشأ بمكة، ورأى عقيل بن أبي طالب، وأبا الدراداء، قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة، قال ابن سعد: كان ثقة فقيهاً عالماً كثير الحديث، انتهت إليه الفتوى بمكة، مات سنة أربع عشرة ومائة في رمضان، وعاش مائة سنة.
(2) مقاتل بن سليمان الأزدي البلخي المفسر أبو الحسن عن مجاهد، والضحاك، وابن بريدة، وعطاء بن أبي رباح، وأبي إسحاق السبيعي، والزهري، وعنه حرمي بن عمارة، وعلي بن الجعد، والمغيرة بن عبدالله، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، وغيرهم، قال الشافعي: الناس عيال على مقاتل في التفسير، توفي سنة خمسين ومائة.(1/109)
أما الآية فليس في ظاهرها شيء مما ذكروا، وما ذكروه عن الظاهر وبئس الكلام ولئن ماتقدم وما تأخر كلها في ذم القوم.
وقيل: إن الآية نزلت في كفار مكة عن مجاهد، والسدي، والضحاك(1)، ومحمد بن الحنفية(2).
__________
(1) الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم، ويقال: أبو محمد مولاهم، الخراساني، يروي عن ابن عباس، وزيد بن أرقم، وابو سعيد الخدري، قيل: وعن علي عليه السلام، وحذيفة، وابن مسعود، وروى عنه عبيد بن سليمان، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو سعيد البقال، وكثيرون ذكرهم في الطبقات.
وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، قال الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: عن سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وهو المراد أينما ورد مطلق عند أئمتنا عليهم السلام، توفي سنة خمس وقيل ست ومائة.
(2) محمد بن علي بن أبي طالب عليهما السلام ، الهاشمي ، أبو القاسم ، المشهور بابن الحنفية نسبة إلى أمه ، واسمها خولة بنت جعفر بن قيس من بني حنيفة بن لجيم من سبي أهل الردة ، وقيل غير ذلك .
ولد محمد بن الحنفية لسنتين بقيتا من خلافة عمر وسماه أمير المؤمنين عليه السلام محمد وكناه أبا القاسم لحديث روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعلي عليه السلام : ((سيولد لك بعدي غلام وقد أنحلته اسمي وكنيتي ، ولا تحل لأحد من أمتي بعده))، كان من علماء العترة وفضلائهم ، وكان شجاعاً شديد القوة ، وحضر مع أمير المؤمنين عليه السلام حروبه الجمل وصفين والنهروان ، وجاهد فيها جهاد الأبطال وكان يحمل راية أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل . توفي سنة ثمانين في الأصح ، وعمره سبع وستون سنة ، وقبره بالطائف .(1/110)
ومعناه ينهون عن إتباعه غيرهم، وينأون عنه، ولأن قوله: ينهون عنه خرج مخرج الذم، ولأن أبا طالب كان يقرب منه رباه صغيراً ونصره كبيراً، وقام بأمره كهلاً، وناشئاً.
وقد ثبت بالنقل أنه كان مسلماً، وثبت بإجماع أهل البيت أنه أسلم وإجماعهم حجة، وعلى أن نقلهم أولى من نقل غيرهم لأنهم أولاده، فهم أعلم بأحواله.
وقد روي في حديث الإستسقاء أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى ما رأى من المعجز [لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه من ينشدنا قوله]، فأنشده أمير المؤمنين الأبيات التي مدحه بها(1).
__________
(1) وحديث الإستسقاء هو ما أخرجه البيهقي عن أنس بن مالك، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشكى الجدب والقحط، وأنشد أبياتاً، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء ودعا، فما رد يديه حتى التفت السماء بأبراقها، ثم بعد ذلك جاءوا يضجون من كثرة المطر خوف الغرق، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم حوالينا ولا علينا))، وضحك صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: ((لله در أبي طالب لو كان حياً لقرت عيناه من ينشدنا قوله؟)) فقال علي عليه السلام: كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه .... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم .... وهم عنده في رحمة وفواضل
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أجل)).(1/111)
وروى ابن عمر أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا تركت الشيخ فأتيته)) وكان أعمى، فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشد فرحاً مني بإسلام أبي ألتمس بذلك قرة عينك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: صدقت، صدقت.
وروى أبو الحسن علي بن مهدي الطبري(1)، قال: روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما دعا أبا طالب إلى الإسلام، قال له: ما أشد تصديقنا لحديثك، وأقبلنا لنصحك، وهؤلاء بنو أبيك قد اجتمعوا وأنا كأحدهم، وأسرعهم والله إلى ماتحب فامض لما أمرت به، فإني والله تابعك ماحييت، ولا أسلمك حتى يتم أمرك، وأما أنت ياعلي فما بك رغبة عن الدخول فيما دعاك إليه ابن عمك، وإنك لأحق من وازره، وأنا من ورائكما حافظ، ومانع، فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وشد أبو طالب أزره، وقبل ظهره، وأنشأ:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا .... يصلون للأوثان قبل محمد
وقال:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً .... نبياً كموسى خط في أول الكتب
أليس أبونا هاشم شد أزره .... وأوصى نبيه بالطعان وبالضرب
__________
(1) علي بن محمد بن مهدي الطبري ، أبو الحسن ، ويقال : علي بن مهدي الطبري نسبة إلى جده، أحد الرواة عن الإمام الناصر لحق الحسن بن علي الأطروش عليه السلام، عالماً متكلماً فقيهاً مفسراً مصنفاً حافظاً لأيام العرب وأشعارها ، روى عنه السيد أبو طالب كثيراً في الأشعار ، صحب أبا الحسن الأشعري مدة بالبصرة .(1/112)
وروى الطبري(1) أيضاً أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتمعوا إليه، وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالاً وجوداً وشهامة: عمارة بن الوليد، ندفعه إليك يكون نصره وميراثه لك، وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا وسفه أحلامنا، فنقتله، قال أبو طالب: والله ما أنصفتموني تعطوني ابنكم فأغذوه، وأعطيكم ابني فتقتلوه بل فليأت كل رجل منكم بولده فأقتله، وهموا بالإغتيال بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فمنعهم أبو طالب من ذلك، وقال فيه:
منعنا الرسول رسول المليك .... ببيض تلألا كلمع البروق
أذب وأحمي رسول المليك .... حماية حام عليه شفيق
فأما الخبر فلا يصح مع ماكان إليه من أبي طالب من النصرة والقيام بأمره، ومع ماعليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرحمة وشرف الأخلاق لايقول عند موت عمه اذهب فواره، وكان بعد موته يطلب ناصراً ويتردد في المواقف، ويعرض نفسه فلا يجد ناصراً.
وأما حديث الشفاعة فأجمعت الأمة أنه لاشفاعة للكفار، والعجب من قوم يروون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زار قبر أمه وبكى فلما سئل قال: رأيت ماهي فيه من العذاب، ولم أغن عنها شيئاً، ثم يروون في أبي طالب الشفاعة، ويروون أن لاشفاعة للكفار، ويروون أن أبا طالب مات كافراً ويشفع له، فيروون الشيء وخلافه، ولايعلمون مايروون.
__________
(1) المراد به: أبو الحسن علي بن مهدي الطبري السالف الذكر، ذكره في أمالي أبي طالب: 359.(1/113)