سورة المائدة
[الآية الرابعة عشرة]: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
روي عن جماعة المفسرين أن هذه الآية من قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة:3]...إلى آخر الآية نزلت يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقف بعرفات، وروي أنه كان على ناقته العضباء.
وروي أنه لم ينزل بعدها شيء، وعاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدها إحدى وثمانين يوماً، فلا بد أن يكون ذلك أمر عظيم مما مَنَّ الله على المسلمين به، وتمم عليهم تبيانه.
ومعلوم أنه تعالى قد شرع جميع الشرائع قبل ذلك فلم يبق إلا أنه أمره أن ينص على علي بالإمامة، ويجعله الحجة على خلقه، وحفظ دينه، فلما بلغ غدير خم، ونزل قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، على مانبينه من بعد من ما نزل في واد ليس بموضع النزول، ونص عليه، وبين فضله وشرفه، وأنه القائم بعده مقامه، وكان المشركون يقولون: إنه أمير لايقوم بعده مقامه أحد، ولاولد له فبين تعالى أنهم يئسوا من ذلك حيث نص عليه، وتمم به الشرع والدين، وهذا فضيلة ظاهرة.(1/99)


[الآية الخامسة عشرة]: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ}...الآية [المائدة:54].
روي عن بعض المفسرين أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه قاتلوا أهل الردة عن الحسن، وقتادة(1)، وابن جريج(2)، وغيرهم.
وقيل: نزلت في الأنصار عن السدي.
__________
(1) قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب، البصري، الأكمه، أحد الأعلام كان تابعياً عالماً كبيراً من أهل العدل والتوحيد، وقد رمي بالقدر، ولم يصح عنه، ذكره المنصور بالله، وابن حميد من أهل العدل والتوحيد، توفي كهلاً سنة سبع أو ثمان عشرة ومائة.
(2) ابن جريج، هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي، الأموي مولاهم المكي، الفقيه صاحب التصانيف، وأحد الأعلام، أدرك صغار الصحابة، ولم يحفظ عنهم.
قال أحمد: كان من أوعية العلم وثقه ابن معين إذا روى من الكتاب وقال أحمد: هو أول من صنف الكتب، ولد سنة نيف وسبعين، وقيل: ثمانين، وتوفي سنة خمسين ومائة، وقيل: إحدى وخمسين، وقيل: تسع وأربعين، وقد جاوز المائة.(1/100)


وقيل: في أهل اليمن عن مجاهد(1)، وروى مرفوعاً.
وقيل: في أهل فارس، وروى أيضاً ذلك مرفوعاً........
وذكر الشريف المرتضى: أنها نزلت في أمير المؤمنين، ومن قاتله، قال: وروي ذلك أيضاً عن علي، وابن عباس، وعمار، قال: ومما يقوي ذلك أنه تعالى وصف من عناه بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام مستكملاً لها بالإجماع وهو قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك يوم خيبر يوم دفع إليه الراية وفرَّ من فر، وقال: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لايرجع حتى يفتح الله على يديه)).
ثم قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وصفه بالرفق والتواضع مع المؤمنين، وشدة النكاية في الكافرين.
ثم قال: {يُجَاهِدُونَ} وصفه بقوة الجهاد وأنه لايخاف في الله لومة لائم، ولاشبهة في قصور كل مجاهد عن منزلة أمير المؤمنين، فكان عليه السلام معروفاً بكشف الغم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يفر عن مقام قط، ولا نكص عن قرانٍ قط، فالآية تكاد تعلم أنه المعني بها دون غيره ضرورة ممن لم يكن له موقف، ولا قتيل.
__________
(1) مجاهد بن جبر بفتح الجيم وإسكان الموحدة وآخره راء مهملة، مولى السائب بن السائب أبو الحجاج المكي المقري الإمام المفسر، ولد سنة 21هـ، وكان إماماً في القرآن والتفسير، روى عن أبي هريرة وابن عباس، وقرأ عليه، وروى عن أم سلمة، وجابر، وعائشة، وأم هانئ، وعن علي عليه السلام، وغيرهم الكثير، وثقه ابن معين، وأبو زرعة، قرأ عليه ابن كثير، وأبو عمرو بن العلاء، وتوفي سنة أربع ومائة.(1/101)


[الآية السادسة عشرة]: قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
قيل: نزلت الآية في علي لما تصدق بخاتمه وهو راكع عن مجاهد، والسدي.
وعن أبي ذر في حديث: أن سائلاً سأل في المسجد، فلم يعطه أحد شيئاً، وكان علي راكعاً، فأومى إليه بخنصره اليمنى، وكان متختماً، فأخذ السائل الخاتم، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صلاته، قال: ((يارب إن موسى سألك، فقال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(25)وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي(26)}، {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29)هَارُونَ أَخِي(30)اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31)وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32)} [طه: من32:25]، اللهم وأنا رسولك وصفيك، فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري)) فنزل جبريل عليه السلام بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}...الآية.
وقد ذكر جماعة أنها نزلت في جماعة المؤمنين، والذي يبين صحة ماقلنا أنه وصف المعنى بالآية بصفات لاتليق بجميع المؤمنين:
أحدها: أنه قال وليكم فجعل له من الولاية مثل ما لله ولرسوله، وهو وجوب الطاعة.
وثانيها: أنه قال: يؤتون الزكاة وهم راكعون، يعني في حال الركوع ولم يرو ذلك لأحد غيره.
ثالثها: أن دخوله تحت الآية مجمع عليه، ودخول غيره مختلف فيه، ولادليل عليه.
ورابعها: أنه لايخلو إما أن يراد بالولي الأولى فلا يليق إلا به، والموالاة ظاهراً وباطناً فكذلك.
وخامسها: إجماع أهل البيت عليهم السلام أنها نزلت فيه.(1/102)


وسادسها: أن كل من قال المراد بالمولى الإمامة، قال: إنه المعني بالآية، وقد ثبت أن المراد بالولي الأولى وهو الإمامة.
[حديث الموالاة والغدير]
[الآية السابعة عشرة]: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
المروي عن جماعة أنها لما نزلت هذه الآية قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً بغدير خم، وأخذ بيد علي ورفعها حتى رأى بعضهم بياض إبطه، ثم قال: ((ألست أولى بكم من أنفسكم)) قالوا: اللهم نعم، قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله)) فقام عمر وقال: بخٍ بخٍ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وأنشأ حسان(1) أبياتاً أنشد بها بعد أن استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إنشادها، يقول:
يناديهم يوم الغدير نبيهم .... بخُمٍّ فأسمع بالرسول منادياً
وقال فمن مولاكم ونبيكم .... فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبينا .... ومالك منَّا في الولاية عاصياً
فقال له: قم ياعلي فإنني .... رضيتك من بعدي إماماً وهادياً
هناك دعا اللهم وال وليه .... وكن للذي عادا علياً معادياً
__________
(1) حسان بن ثابت الأنصاري الخزرجي من بني النجار، شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من فحول الشعراء في الجاهلية والإسلام، أجمعت العرب على أن أشعر أهل المدر حسان، مات قبل الأربعين في خلافة علي عليه السلام وله مائة وعشرون سنة، ستون في الجاهلية؛ وستون في الإسلام، فهو مخضرم .(1/103)

21 / 44
ع
En
A+
A-