[الآية الثانية عشرة]: قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}...الآية [النساء:95]، أجمعت الأمة على أن علي بن أبي طالب رأس المجاهدين، وأنه لم يبلغ أحد مبلغ جهاده، فقالت الشيعة: فيه نزلت هذه الآية.
وأكثر أهل التفسير أن قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} فيه نزلت.
[الآية الثالثة عشرة]: وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}، فيه نزلت، وكان كاشف الكروب عن وجه رسول الله، والمجاهد بين يديه، وكما سبق جميع الأمة في العلم، والعمل والإختصاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم سبقهم في الجهاد، فلم يروَ لأحد ماروي له من مقاماته المشهورة، وجهاده في غزواته المأثورة، وكمال خصاله حمل الناس على عداوته، ودفعه عن مقامه، ولحسدهم إياه بادروه في القتال، وأظهروا فيه سوء المقال، ثم فعلوا بذريته ماهو مشهور.
[بعض مقامات أمير المؤمنين علي عليه السلام في الجهاد]
فمن مقاماته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وهو أول حرب شهدها ففعل بهم الأفاعيل، وأحصى له خمس وأربعون من الجرح والقتل، وقيل سبعون وما قارب ذلك كل منهم مشهور، وأسماؤهم منقولة حتى قال أبو جهل لعنه الله: وسأل عنه ابن مسعود، فقال: علي، فقال: هو الذي فعل الأفاعيل، وما بقي للصلح موضعاً.(1/90)


ثم كان مقامه بأحد، وقد انهزم الجماعة، ولم يبق إلا خمسة علي أحدهم فقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى خضب سيفه ويده من دماء صناديد الكفرة، ووقى بنفسه المختار صلى الله عليه وآله وسلم حتى روى أبو رافع أنه سمع صوتاً من السماء يقول: لاسيف إلا ذو الفقار، ولافتى إلا علي.
وروى أبو رافع قال: كان راية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع علي عليه السلام يوم أحد، وكان راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة فقتله علي، وأخذها جماعة بعده وقتلهم(1)وتراجع المسلمون وانهزم الكفار.
__________
(1) المشهور والمعلوم الذي لاخفاء به أن أمير المؤمنين عليه السلام كان حامل لواء المسلمين يوم أحد أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت راية المشركين مع بني عبد الدار أخذها منهم جماعة قتلهم علي عليه السلام، فكانت أولاً مع طلحة بن أبي طلحة فبرز له علي عليه السلام فقتله وسقطت الراية، ثم أخذها أخوه أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي عليه السلام، وسقطت الراية، فأخذها أخوه عثمان بن أبي طلحة، فقتله علي عليه السلام، وسقطت الراية، فأخذها أخوه مسافع بن أبي طلحة، فقتله علي عليه السلام، وسقطت الراية، فأخذها أخوه الحارث بن أبي طلحة، فقتله علي عليه السلام، وسقطت الراية، فأخذها أبو عزيز بن عثمان، فقتله علي عليه السلام، وسقطت الراية، فأخذها عبدالله بن أبي جميلة، فقتله علي عليه السلام، وسقطت الراية، ثم أخذها ارطأة بن شرحبيل، فقتله علي عليه السلام، ثم أخذها مولا لبني عبد الدار يقال له صوأب، فضربه علي عليه السلام على يمينه فقطعها، فأخذ الراية بشماله، ثم ضربه على شماله فقطعها، فضم الراية بين يديه فضربه علي عليه السلام على أم رأسه فقتله، وإلى هذا أشار الإمام الحسن بن بدر الدين في منظومة أنوار اليقين حيث يقول:
وهو الذي دهده يوم أحد .... سبعاً من الرايات بين الأسد
يوم مواساة النبي المهدي .... وجاءه بذي الفقار المهدي(1/91)


وروى زيد بن علي عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: كسرت يد علي عليه السلام يوم أحد وفي يده لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتحاماه الناس، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ضعوه في يده الشمال فإنه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة.
ثم مقامه يوم الخندق عند اجتماع الأحزاب يوم زاغت الأبصار ((وبلغت القلوب الحناجر، وتظنون بالله الظنونا))، وقال المنافقون: ((ماوعدنا الله ورسوله إلا غروراً))، فقتل عمرو بن عبد ود بعد أن برز وطلب البراز، وكاع الناس، وذلك مقام لايعادله مقام إلى يوم الدين، وذلك لعلي أمير المؤمنين.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لقتال علي مع عمرو بن عبد ود أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة(1))).
ومن مقاماته عليه السلام قتله عامر بن الطفيل أحد الشياطين، وأدرك منه ثأر المسلمين.
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك ج2 ص32 بسنده عن سفيان الثوري، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج13 ص19 عن إسحاق بن بشر القرشي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، ورواه الفخر الرازي في تفسيره الكبير في تفسير سورة القدر.(1/92)


ومن مقاماته عليه السلام يوم خيبر ماهو معروف مشهور فروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سار إلى خيبر بعث عمر مع الناس إلى حصنهم فانهزم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأبعثن إليهم رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لايرجع حتى يفتح الله على يديه)) فتطاول الناس لقتالهم، ثم مكث ساعة، وقال: ((أين علي؟)) قالوا: هو أرمد، قال: ((ادعوه)) فلما جاء قال علي: أتيته ففتح عيني، ثم تفل فيهما، ثم أعطاني اللواء، فخرجت حتى أتيتهم، فبرز مرحب يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب .... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهّب
فبرزت إليه أرتجز وأقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة .... كليث غاباتٍ كريه المنظره
أضرب بالسيف رؤوس الكفرة .... أكيلكم بالصاع كيل السندرة
فالتقينا فقتله الله على يدي، وانهزم أصحابه، وتحصنوا وأغلقوا الباب، وأتيت الباب فلم أزل أعالجه حتى فتحه الله، رواه الناصر(1)للحق بإسناده.
__________
(1) خبر فتح خيبر رواه الجم الغفير، والعدد الكثير من الأئمة الهداة من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، ومن غيرهم من المحدثين فرواه من أهل البيت الإمام الأعظم زيد بن علي، والإمام الناصر الأطروش، والإمام أبي طالب، والإمام المنصور بالله، والإمام الحسن بن بدر الدين، وأخيه الحسين بن بدر الدين.
قال المولى العلامة نجم العترة الحسن بن الحسين الحوثي رحمة الله عليه: [رواه محمد بن سليمان الكوفي بأسانيده عن عدة من الصحابة، عن أبي سعيد وفيه ذكر انهزام عمر وتجبينه لأصحابه وتجبينهم إياه، وعن سلمة بن كهيل من طريقين، وعن أبي ليلى، وعن سعد بن أبي وقاص، وعن عمران بن الحصين، وعن سهل، وعن بريدة، وعن ابن عباس، وعن أبي هريرة، وعن عمر، وعن سعيد بن المسيب، وعن ابن عمر من مناقبه.
وروى ابن المغازلي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله...إلخ الحديث)) عن إياس بن سلمة، عن أبيه من طريقين، عن عمران بن الحصين من طريقين، وعن أبي هريرة من طريقين، وعن أبي سعيد الخدري من طريق، وعن بريدة من طريقين، وعن سعد بن أبي وقاص بطريق، وفي بعضها زيادة، وبعضها نقص، وكذا رواه في خصائص النسائي عن سعد، وعن علي، وعن بريدة، وعن سهل بن سعد، فأما عن سعد بن أبي وقاص فبثلاث طرق وكلها متفقة على ما يفيد عصمة علي عليه السلام، وكذا رواه في الخصائص عن أبي هريرة من أربع طرق، وعن عمران بن الحصين، وعن الحسن بن علي عليه السلام]، انتهى.
ورواه في صحيح البخاري في الجهاد والسير، ورواه أيضاً في كتاب بدء الخلق في باب مناقب علي بن أبي طالب، وباب غزوة خيبر، ورواه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، ورواه البيهقي أيضاً في سننه ج6 ص362، وأبو نعيم في الحلية ج1 ص26، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده ج5 ص322، والنسائي في خصائصه ص6، ورواه أحمد أيضاً ج4 ص51، وابن سعد في الطبقات ج2 ص80، وذكره عبد البر في الإستيعاب ج2 ص450، والمتقي في كنز العمال ج5 ص284، وقال: أخرجه ابن أبي شيبة، ورواه المحب الطبري في الرياض ج2 ص185، وقال: أخرجه أبو حاتم، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ج10 ص320، ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه ج8 ص5، ورواه الترمذي في صحيحه ج2 ص300، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج9 ص124، ورواه ابن ماجه ص12، ورواه الحاكم في المستدرك ج3 ص38، ورواه صاحب حلية الأولياء ج1 ص62، ورواه ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب ج7 ص337، فضائل الخمسة ج2 ص182.(1/93)


وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى(1) عن أبيه(2): أن الناس قالوا له: قد أنكرنا من علي أمراً، إنه يخرج في البرد في الملائين الخفيفين، وفي الصيف في الثوب الثقيل والحشو، قال: فسألت عن ذلك علياً، فقال: أو ماكنت معنا بخيبر؟ قلت: بلى، قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر وعقد له لواء فرجع منهزماً عن أصحابه يجبن أصحابه، ويجبنونه، ثم عقد لعثمان لواءاً فرجع منهزماً يجبن أصحابه ويجبنونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((والذي نفسي بيده لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله ليس بفرار يفتح الله على يديه)) فأرسل إليّ وأنا يومئذ أرمد، فجئته فتفل في عيني، وقال:
__________
(1) عبدالرحمن بن أبي ليلى واسمه بشار، ويقال: بلال، ويقال : داوود بن بلال بن أحيحة، أبو عيسى الأنصاري الكوفي، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر، من كبار التابعين وثقاتهم، وثقه ابن معين والعجلي، قال : أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أخذ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام وكان من شيعته ومحبيه وخواصه، وشهد معه معركة الجمل، وبايع الحسن بن الحسن الرضا، وخرج مع محمد بن عبدالرحمن الأشعث على الحجاج، استعمله الحجاج على القضاء ثم ضربه ليسب علياً عليه السلام، توفي في معركة الجماجم سنة ثلاث وثمانين .
(2) أبو ليلى الأنصاري، اسمه بلال وقيل : بُلَيْل؛ تصغير بلال، وقيل: داوود؛ وقيل غير ذلك، وكنيته أبو ليلى بن بلال بن أحيحة بن الجلاح أبو عبدالرحمن، شهد أحداً وما بعدها، نزل الكوفة، وعاش إلى زمن أمير المؤمنين علي عليه السلام وشهد معه مشاهده جميعها، وقُتل بصفين سنة سبع وثلاثين .(1/94)

19 / 44
ع
En
A+
A-