باهلناه لنهلكن، وقالت النصارى: والله إنا لنعلم أنه النبي الذي كنا ننتظر ولئن باهلناه لنهلكن، ولانرجع إلى أهل ولامال، فقالوا: فكيف نعمل؟ قال الأسقف أبو الحارث: رأينا رجلاً كريماً نغدوا عليه فنسأله أن يقيلنا، فلما أصبحوا اجتمع النصارى واليهود، وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل المدينة، ومن حوله من أهل العوالي، فلم يبق بكر لم تر الشمس إلا خرجت فاجتمع الناس ينظرون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبي هو وأمي وعلي من بين يديه، والحسن عن يمينه قابض بيده، والحسين عن شماله، وفاطمة خلفه، ثم قال: هلموا فهؤلاء أبناءنا الحسن والحسين، وهؤلاء أنفسنا لعلي ونفسه، وهذه نساؤنا لفاطمة، قال: فجعلوا يتسترون بالأساطين، ويستتر بعضهم ببعض تخوفاً أن يبدأهم بالملاعنة، ثم أقبلوا حتى بركوا بين يديه، ثم قالوا: أقلنا أقالك الله يا أبا القاسم، قال: أقيلكم على أن تجيبوني إلى واحدة من ثلاث .
قالوا: هات .
فقال: أدعوكم إلى الإسلام، فتكونون إخواننا لكم مالنا وعليكم ماعلينا .
قالوا: لاسبيل إلى هذه.
قال: جزية نفرضها عليكم تؤدونها إلينا كل سنة، وأنتم صغرة .
قالوا: لاسبيل إلى هذه ، فهات الثالثة .
قال: الحرب .
قالوا: لاطاقة لنا بك، فصالحوه على ألفي حلة ألف في رجب، وألف في صفر، وعلى عارية ثلاثين درعاً، وثلاثين رمحاً، وثلاثين فرساً إن كان باليمن كيد، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضامن بها حتى يؤديها إليهم.(1/51)
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((والذي نفسي بيده لو باهلتهم مابقي على وجه الأرض منهم أحد، ولقد حشر علي بالطير والعصافير من رؤوس الشجر لمباهلتهم))، فلما رجع وفد نجران لم يلبث السيد، والعاقب إلا يسيراً حتى رجعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأهدى له العاقب حلة وعصا وقدحاً ونعلين وأسلما(1))).
واختلف الشيعة في المعنى الذي لأجله دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المباهلة علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام دون غيرهم من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، وقالوا فيه أقوالاً.
__________
(1) وممن روى هذا الخبر أيضاً ـ أي خبر المباهلة ـ غير من ذكره الحاكم، قال الإمام الحافظ الحجة مجد الدين بن محمد المؤيدي أبقاه الله: [ولا نزاع في هذا بين العترة والأمة، وممن روى ذلك الحسن، والشعبي، والسدي، والحاكمان الجشمي والحسكاني، وأبو نعيم، والثعلبي، والخوارزمي، والزمخشري، والبيضاوي، والرازي، وأبو السعود...إلى قوله: وأخرجه محمد بن يوسف الكنجي، وقال: أخرجه مسلم في صحيحه، وقال في موضع آخر من مناقبه: وأخرجه أحمد بن حنبل عن غير واحد من الصحابة]، انتهى.(1/52)
فمنهم من قال: إنما خصهم ليبين منزلتهم، وأنه ليس في أمته بعده من يساويهم في الفضل وتنبيهاً على غاية الفضل لهم كماله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومنهم من قال: خصهم بذلك لتكون حجة على مخالفيهم، ويؤثر لعنهم ويجري ذلك اللعن مجرى لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنهم من قال: خصهم لكونهم معصومين.
ومنهم من قال: ليعلم أن التغيير والتبديل لايجوز عليهم .
ومنهم من قال: ليعلم أن الإمامة لاتخرج عنهم.
ومنهم من قال: خصهم ليعلم أنه أجراهم مجرى نفسه، ففاطمة بضعة منه، والحسن، والحسين ابناه، وعلي كنفسه.
وقال بعضهم: أنه خصهم للمباهلة، وكان يجب أن يخص كل من كان عنده أعز وشفقته عليه أكثر وحذره على أنفسهم أوفر، فلذلك خصهم به.
ولا يقال كيف يصح جميع ماذكرتم في الحسن والحسين، وهما صغيران؟
قلنا: يحتمل أنهما بلغا تلك الدرجة، ويحتمل أنه تعالى جعلهما كذلك معجزة لرسوله كما فعل بيحيى وعيسى عليهما السلام.
ولايقال إنه أخرجهم لقرب النسب منه.
قلنا: لو كان كذلك لأخرج العباس، وعقيل.(1/53)
[ذكر بعض من فضائل علي عليه السلام]
ومما يعضد ماذكرنا من الآثار حديث بريدة(1) أن علياً عليه السلام كان في غزوة، وفيها خالد بن الوليد، فأصاب علي جارية فكتب خالد كتاباً نال فيه من علي عليه السلام ودفعه إليّ وأمرني أن أنال من علي عند رسول الله، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفعت إليه الكتاب، فلما قرى الكتاب رأيت الغضب في وجهه، وقال: ((يابريده لاتقع في علي فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي(2))).
__________
(1) بريدة: بضم أوله، وفتح مهملتين بينهما تحتية مثناة، ثم هاء، بن الحصيب بضم الحاء بن الحارث الأسلمي، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وشد خيبراً، سكن المدينة أولاً، ثم البصرة، ثم مرو، وبها توفي سنة إثنتين وستين، وهو آخر الصحابة موتاً بخراسان.
(2) حديث بريدة: رواه الموالف والمخالف، وقد روي بطرق كثيرة، وبألفاظ مختلفة:
فمنها: اللفظ المذكور في المتن، ورواه بنفس اللفظ مع اختلاف يسير النسائي في خصائصه.
ومنها: ما رواه النسائي في خصائصه، وأحمد بن حنبل في مسنده عن عمران بن حصين، قال: جهز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً، واستعمل عليهم علي بن أبي طالب، فمضى في السرية، فأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرناه بما صنع، وكان المسلمون إذا رجعوا من سفر بدأوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسلموا عليه فانصرفوا إلى رحالهم، فلما قدمت السرية، فسلموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام أحد الأربعة، فقال: يا رسول الله ألم تر أن علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا، فأعرض عنه رسول الله، ثم قام الثاني، وقال مثل ذلك، ثم الثالث، فقال مقالته، ثم قام الرابع، فقال مثل ما قالوا، فأقبل إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والغضب يبصر في وجهه، فقال: ((ما تريدون من علي؟ إن علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن من بعدي)) مع اختلاف يسير في الروايتين.
ومنها: ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن بريدة في حديث، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاتقع في علي، فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي)).
ومنها: ما رواه أحمد بن حنبل أيضاً في مسنده عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أتبغض علياً؟))، قال: قلت: نعم، قال رسول الله: ((فلا تبغضه وإن كنت تحبه فازدد له حباً، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل علي في الخمس أفضل من وصيفة))، وهو في خصائص النسائي، وذكر القصة بطولها، وقال في آخره: فما كان أحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إليَّ من علي رضي الله عنه.
ولهذا الحديث ألفاظ كثيرة غير هذه بروايات مختلفة وطرق كثيرة متظافرة.(1/54)
وروي أنه قال: ((يا بريده لاتبغض علياً فإنه مني وأنا منه إن الناس خلقوا من شجرة، وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة)).
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن بعض أصحابه وذكرهم بخير، فقال له قائل: فعلي، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي)).
وروى جماعة أنه لما انهزم الناس يوم أحد وبقي علي عليه السلام يجاهد عن الدين، ويعين بنفسه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقاتل القوم حتى فض جمعهم وانهزموا، فقال جبريل عليه السلام لرسول الله: (إن هذا لهي المواساة) فقال صلى الله عليه وآله وسلم، يا جبريل: ((إنه مني وأنا منه)) فقال جبريل: (وأنا منكما)(1) فأجرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً مجرى نفسه كما تضمنت الآية ذلك في قوله: {وَأَنْفُسَنَا} لأن المراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، فلا يقال: إن المراد بقوله: وأنفسنا النبي وحده لأنه الداعي فلابد أن يكون المدعو غيره، وتواتر النقل(2)
__________
(1) أخرجه أحمد بن حنبل في المناقب، وصاحب الرياض النضرة المحب الطبري ج2 ص172، وعلي بن سلطان في مرقاته ج5 ص568، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج6 ص114، وقال: رواه الطبراني، وذكره في كنز العمال ج6 ص400، وقال: رواه الطبراني.
(2) تواتر النقل بمعنى أنه أجمع كل من روى قصة المباهلة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج أحداً من الناس، ولا من الصحابة إلا أهل بيته: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام، فعلي ورسول الله أنفسنا.
ومما يؤيد هذا، قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((لينتهن بنو ربيعة أو لأبعثن عليهم رجلاً كنفسي ينفذ فيهم أمري، فيقتل المقاتلة، ويسبي الذرية)) فما راعني إلا وكف عمر في حجزتي من خلفي: من يعني؟ قلت: إياك يعني وصاحبك، قال: فمن يعني؟ قلت: خاصف النعل، قال: وعلي يخصف النعل، أخرجه النسائي عن أبي بن كعب، ولهذا الحديث رواية متعددة بألفاظ متقاربة، في مسند أحمد بن حنبل عن أبي ذر، والطبري في ذخائر العقبى.(1/55)