[ 217 ]
عن تخطئته وعن اثبات لغيه وتحقيق ظلمه وجوره فانهم انفسهم لم يسكتوا عن شئ من ذلك وهم الذين اجمعوا على تخطئته وبغيه وبينوا فضائحه وقبائحه وملاؤا بذلك مسنداتهم وشحنوا بها تواريخهم فلم يبق الا ان يكون مرادهم السكوت عن لعنه أو سبه أو عنهما معا. اما لعنه فقد قدمنا في صدر الرسالة بيان مشروعية لعن من استحق اللعن باحد مسوغاته مما تلبس معاوية بالاكثر منها فيكون لعنه مطلوبا تأسيا برسول الله وبملائكته وعملا بما جاء في كتابه تعالى من ذلك كيف وقد قال جل شأنه اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاغنون اليس هذا في حقنا خبرا بمعنى الامر كما في قوله عزوجل والمطلقات يتربصن ونحوه على ان التأسي وحده كاف في طلبه وحاشا من ذكرتم من السابقين ان ينهى عن امر شرعه الله تعالى وكرره في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله ولو سلمنا ان احدا منهم نهى عنه فلا اعتبار لكلام احد في مقابلة كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام فنحمل حينئذ اجلالا لمقامهم نهيهم عن ذلك على النهي عنه عند خوف الفتنة كما هو الغالب في الازمان السابقة أو على النهي عن لعن من لم يستحق اللعن اجمالا وهذا حق وصحيح فتعين كون مرادهم السكوت عن سبه لا تقرير قبائحه والرضا بها ونحن تنابعهم على ذلك ونعلم ان لا اثم فيه ولا فائدة إذا لم تدع إليه مصلحة وهي هنا موجودة (1) ولكنا لا نوافق من تجاوز ذلك من المتأخرين إلى ما لم يأمر به السلف من مدحه واطرائه بما ليس فيه والترضي عنه واعلان حبه والانكار على من اورد شيئا من مثالبه لاقامة حجة أو بيان محظور فمن مدحه أو ترضى عنه أو احبه وادعى انه متأس في ذلك بالسلف الاول فقد افترى عليهم (فقد) اورد ابن عبدالبرفي
---
(1) هي اولا امتثال قول الله تعالى ليبيننه للناس ولا يكتمونه ثانيا ارشاد جهلة المقلدين إلى الحق رجاء رجوعهم إليه ثالثا رفع التهمة التي يلصقها الخصم بنا من تقدبمنا اقوال علمائنا على النصوص الصريحة. (*)
---(1/217)
[ 218 ]
الاستيعاب بسند معتبر عن سفيان الثوري عن ابي قيس الاودي قال ادركنا الناس وهم ثلاث طبقات اهل دين يحبون عليا واهل دنيا يحبون معاوية والخوارج (انتهى). هكذا كان السلف فاين هي الطبقة الرابعة من السلف التي تحب عليا ومعاويا كليهما اننا لو فتشنا وتقصينا لم نجد واحدا من جلة الصحابة والتابعين يحب معاوية كما يحبه اليوم المنتسبون إلى الاشعري والما تريدي ويصوب افعاله كما صوبها هؤلاء أو يتأولها له كما تأولوا وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون. نسألك اللهم هداية وتوفيقا لنا ولهذه العصائب المتعصبة ليتهم حيث اطمأنت نفوسهم إلى معاوية استحسان مساوية وهشت افئدتهم إلى خلاف علي عليه السلام وحزبه سلكوا سبيلا من الانصاف ولو ضيقا فأن من المقرر الثابت في اصولهم انه لا يجوز الانكار على من ارتكب مختلفا فيه كما نص عليه القسطاني والاصوليون ثم انهم لم يجعلوا الخلاف امير المؤمنين عليه السلام واكابر الصحابة في هذه المسألة حظا من النظر في مقابلة قول الاشعري والما تريدي بل اسقطوا قوله وقول من موافقه عن درجة الاعتبار فلم يعدوا قوله خلافا اصلا وصاروا ينكرون اشد الانكار على من قال: بقوله وعمل بعمله في هذه المسألة وإذا قلت لهم تعالوا إلى ما انزل الله والى الرسول لم يستحيوا ان يجيبوك بقولهم حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا افلا يتوبون إلى الله ويستغفرون والله غفور رحيم. وإذا البينات لم تغن شيئا * فالتماس الهدى بهن عياء وإذا ضلت القول على علم فماذا تقوله النصحاء يتجح اناس من انصار معاوية ويحتجون بأن القول بتعديله ووجوب تأويل قبائحه وجواز حبه وتسويده هو قول الجم الغفير من المحدثين ثم
---(1/218)
[ 219 ]
من اتباع الاشعري والماتريدي وان هؤلاء هم الجماعة والسواد الاعظم المأمور بلزومهما عند الاختلاف كما جاء في الحديث الشريف فأغتروا بذلك وظنوا الكثرة عاصمة عن الخطاء وملازمة للحق وان كانت ادلة الاقل اقوى وحجتهم اظهر واوضح وهيهات هيهات ان السواد الاعظم والجماعة هو من كان على الحق ولو واحدا كما قدمنا ذلك عن سفيان الثوري رحمه الله. قال ابن القيم رحمه الله في اغاثة اللهفان قال ابو محمد عبدالرحمن ابن اسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع حيث جاء الامر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه وان كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا لان الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الاولى من عهد النبي صلى الله عليه وآله واصحابه ولا نظر إلى كثرة اهل الباطل بعدهم قال عمرو بن ميمون الاودى صحبت معاذا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام ثم صحبت بعده افقه الناس عبدالله بن مسعود رضى الله عنه فسمعته يقول عليكم بالجماعة فان يد الله على الجماعة ثم سمعته يوما من الايام وهو يقول سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة وصلوا معهم فأنها لكم نافلة قال قلت يا اصحاب محمد ما ادرى ما تحدثونا قال: وما ذاك قلت تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل مع الجماعة وهي نافلة قال يا عمرو بن ميمون قد كنت اظنك من افقه اهل هذه القرية. تدري ما الجماعة ؟ قلت لاقال: ان جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق وان كنت وحدك وفي طريق اخرى فضرب على فخذي وقال: ويحك ان جمهور الناس فارقوا الجماعة وان الجماعة ما وافق طاعة الله عزوجل قال نعيم بن حماد يعني إذ افسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل ان تفسد وان كنت وحدك فأنك انت الجماعة حينئذ ذكره البيهقي وغيره وقال فيه سئل
---(1/219)
[ 220 ]
بعض اهل العلم عن السواد الاعظم الذين جاء فيهم الحديث إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الاعظم فقال محمد بن اسلم الطوسي هو السواد الاعظم قال: وصدق والله فان العصر إذا كان فيه عارف بالسنة داع إليها فهو الحجة وهو الاجماع وهو السواد الاعظم وهو سبيل المؤمنين التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا (انتهى). على اننا لا نسلم معاوية ما ادعوه من ان المحدثين والاشاعرة والماتريدية هم جمهور هذه الامة واكثرها بل ولانسلم لهم ان جميع من ذكروه قائل بما زعموه في حق معاوية معتقد صحته. اما المحدثون فانا لم نجد الا عن القليل منهم تصريحا بما زعم هؤلاء من تعديل معاوية وتأويل بعض قبائحه والآلاف المؤلفة منهم اما ناقمون عليه أو ساكتون عنه بسبب ما يقتضيه زمانهم وما اشتمل علهى من فتن بني امية ومظالهم. واما الاشاعرة والماتريدية فالكثير منهم بل الاكثر ناقمون في انفسهم على هذا التعديل والتأويل متأففون من هذه الاقوال متبرمون من هذه التحملات نافرة قلوبهم من ذلك الطاغية وموبقاته وجرائره معرضون عن ذكره جملة. أما الخاصة منهم فيما اطلعوا عليه من الدلائل القوية على بطلان ما حرره مقلدوهم وضعف ما استند إليه سابقوهم واما العامة منهم فيما دعتهم إليه الفطرة الايمانية وساقتهم نحوه الالهامات الربانية وهل بعد هذا يصح ان يقال ان السواد الاعظم هو القائل بتعديل معاوية وامثاله والموجب تأويل قبائحه والمثبت له أجر الاجتهاد على فعل المنكرات لابل السواد الاعظم والجماعة هم فئة الحق المفسقون له والمانعون من تعظيمه والقائلون بجواز لعنه بما اكتسب من موجبات اللعن والمصرحون بوجوب بغضه لمحادته لله
---(1/220)
[ 221 ]
ولرسوله وما ارتكبه من معاصيه وسينكشف الغطاء عن جميع ذلك يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها والخصوم إذ ذاك الآلاف المؤلفة من المسلمين والحكم إذ ذاك من لاتخفى عليه خافية فيومئذ لا يعذب عذابه احد ولا يوثق وثاقه احد. ربما يقول قائل انت تطالب الناس اليوم ان يوافقوا الامام عليا ومن هو على طريقته من كبار الصحابة في شأن معاوية وبغضه واستباحة لعنه وهم نعم القدوة والاسوة كما ذكرت ولكنا وجدنا كثيرا من اهل القرون الاولى كالامام الشافعي ونظرائه قد اهملوا تلك الاقوال وسكتوا عنها فهل لا يسعنا ما وسع اولئك الائمة من السكوت والاعراض عن هذه المشاجرات وطرحها جانبا. فنقول له لا يسعكم ما وسعهم لانهم معذورون فيما سكتوا عنه ولا كذلك انتم. انهم وجدوا في زمان كانت الدولة والصولة والشوكة لبني امية وامرائهم العتاة الذين لا يرقبون في مؤمن الا ولا ذمة فلا يتجاسر احد ان يعلن أو يصرح بما يعرفه ويعتقده من مثالب اسلافهم وتوغلهم في البغي والظلم ثم اتى زمان بني العباس فكانوا على بغضهم وعداوتهم لبني امية يضيقون ذرعا بكل فضيلة واتباع وانتماء إلى علي واهل بيته عليهم السلام وكان اهل البيت وشيعتهم في ايام تينك الدولتين بل وفي امرة ابن الزبير (1)
---
(1) نقل أبو الفرج عن المدائني عن ابي بكر الهذلي قال: كان عبدالله بن الزبير قد اغري ببني هاشم يتبعهم بكل مكروه ويغري بهم ويخطب بهم على المنابر ويصرح ويعرض بذكرهم فربما عارضه بن عباس وغيره منهم ثم بدا له فحبس ابن الحنفية في سجن عادم ثم جمعه وسائر من كان بحضرته من بني هاشم فجعلهم في محبس له وملاه حطبا واضرم فيه النار وقد كان بلغه ان ابا عبدالله الجدلي وسائر شيعة ابن الحنفية قد وافوا لنصرته ومحاربة ابن الزبير فكان ذلك سبب ايقاعه يبه وبلغ ابا عبدالله الخبر فوافى ساعة اضرمت النار عليهم فاطفأها واستنقذهم واخرج ابن الحنفية من جوار ابن الزبير من يومئذ انتهى وقد اشار في الكامل إلى القصة وذكرها اهل الاخبار.
---(1/221)