[ 212 ]
للمذهب ولا ريب ان احرار الفكر والقول قليلون جدا لان الانسان مهما كان ذكيا وعالما فضلا عن الجاهل والبليد لابد ان تطرق سمعه وتحتل ذهنه من حال صغره قضايا ومقدمات تؤثر في دهنه وتنطبع في وجدانه وترسخ فيه بتكرر تعاورها عليه فتجعل بينه وبين ما يخالفها غشاوة تحجب الفكر عن النظر فيه اصالة بل ربما صارت اعتقادا مظنون الصدق فلا يتجاوز الفكر ذلك الاعتقاد ولا يحكم الا بما يوافقه. ولا شك ان هؤلاء الافاضل قد اطلعوا على جميع ما ذكرت من الادلة القرآنية و النبوية ولكنهم لم يبيحوا لافكارهم الاستنتاج منها الا بالمقدار الذي يوافق عقائدهم الراسخة في اذهانهم مما تلقوه عن مقلديهم وتهيبوا مع ذلك عن مخالفتهم الراسخة في اذهانهم مما تلقوه عن مقلديهم وتهيبوا مع ذلك عن مخالفتهم مع اتساع المجال لهم بالتأويل الذي سكنت إليه نفوسهم لمطابقته معتقداتهم ولو ان اولئك الفضلاء اطلقوا لافكارهم عنان الحرية واستنبطوا احكام القضايا التي ذكرناها من مصادرها الاولية من الآيات والاحاديث مع تخلية الذهن عما علق به من غيرها وتجريده عما رسخ فيه من اقوال من تقدمهم التي لاحجة بها ولا التفات إليها في مقابلة قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وآله لحكموا قبلي بما حكمت وقالوا كلهم بما قلت على اني لم آت بدعا من القول ولا جديدا من الاعتقاد بل انا مسبوق في كل ما قلته باقوال كثيرين هم اتقى لله واورع واجل وافضل واعلم من اولئك الذين سكتوا عما ذكرت ولم يصنعوا كما صنعت ولكل وجهة هو موليها. نعم ان كثيرامنهم قد آتاه الله حرية الفكر ولم تتغلب عليه تلك العوامل التي تغلبت على غيره ولكن لم يؤته الله حرية القول قتراه يسكت عن ما يراه صوابا ولا يستطيع الجهر به تهيبا من ذي شوكة أو مداراة للعامة ويتخذ حسن الظن بمن تقدمه عذرا له في سكوته بل قد صرح بعضهم بهذا فقال هكذا وجدنا اقوال كثير من السلف فاحسنا بهم الظن وقلنا كما قالوا ولعل
---(1/212)


[ 213 ]
لهم دليلا لم نطلع عليه فهذا هو السبب الذي قيدهم واطلقني واسكتهم وانطقني وآلافة كل الآفة هو التقليد الاعمى والله اعلم. قال شيخ الاسلام ابن تيمية في الصارم المسلول قال ابو طالب المشكاتي قيل للامام احمد ان قوما يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان قال اعجب لقوم اسمعوا الحديث وعرفوا الاسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره قال الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم. وقال بعض العلماء لو اجتمع مجتهدوا الارض كلهم على قول وكان النبي يقتضى خلافه فالحق قول النبي عليه السلام واجماع المجتهدين في مقابله كضرطة بعير في فلاة. وقال السيد الآلوسي في جلاء العينين نقلا عن ابن تيمية قال قد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة فقال له قال ابو بكر قال عمر فقال ابن عباس يوشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء اقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله وتقولون قال ابو بكر قال عمر (انتهى). قلت ولم يقل ابن عباس ان ابا بكر وعمر كانا اعلم مني وافضل ولو لم يكن لهما دليل على قولهما لما قال ثم قال ولو فتح هذا الباب لوجب ان يعرض عن امر الله تعالى وعن امر رسوله صلى الله عليه واله وسلم ويبقى كل امام في اتباعه بمنزلة النبي في امته وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله: اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله (انتهى). ووجه المشابهة في هذا ظاهر إذ من المعلوم ان النصارى لم يعبدوا الاحبار ولا الرهبان وانما اتخذوا مجرد اقوالهم حجة يتدينون بها فعابهم الله بذلك الفعل وسماه عبادة. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في اعلام الموقعين ان فتاوى الصحابة
---(1/213)


[ 214 ]
اولى ان يؤخذ بها من فتاوى التابعين وفتاوى التابعين اولى من فتاوى تابعي التابعين وهلم جرا وكلما كان العهد بالرسول اقرب كان الصواب اغلب ثم قال ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند الله أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الائمة ويأخذ برأيه وترجيحه ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري واسحاق بن راهويه وعلي بن المديني وامثالهم بل لا يلتفت إلى قول ابن ابي ذئب والزهري والليث بن سعد وامثالهم بل لا يعد قول سعيد ابن المسيب والحسن وجعفر بن محمد والقاسم وسالم وعطاء وطاووس وامثالهم مما يسوغ الاخذ به بل يرى تقديم قول المتأخرين من اتباع من قلده على فتوى ابي بكر وعمر وعثمان وعلي وذكر عددا من الصحابة ثم قال فلا ندري ما عذره غدا إذا سوى بين اقوال اولئك وفتاويهم فكيف إذا رجحها عليها فكيف إذا عين الاخذ بها حكما وافتاء ومنع الاخذ بقول الصحابة واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها وشهد عليه بالبدعة والضلالة ومخالفته اهل العلم وانه يكيد الاسلام تالله لقد اخذ بالمثل المشهور رمتني بدائها وانسلت (انتهى). أما قوله انا لسنا باعلم من اولئك العلماء حتى نخالفهم ونصنع غير ما صنعوا فقول لا يقبل ممن يمكنه البحث والنظر في الادلة ومواقع الصحة والضعف فيها وما ابعد هذا إذا اهمل ذلك عن مراتب الرجال وما اعجزه عن نيل صفة الكمال قال الشاعر: ولم ارى في عيوب الناس عيبا * كنقص القادرين على التمام بل هو قول العاجز الوكل والجاهل المقلد الواضع نفسه موضع الصبي لدي كافله والمرأة في قبضة وليها والاعمى في يد قائده على انا نلزمهم ايضا بانهم ومقلديهم ليسوا باعلم ممن لم يسكت عن معاوية بل اوجب بغضه واستجاز لعنه واعلن قبائحه وبين سوء سيرته فكيف خالفوهم وصنعوا غير
---(1/214)


[ 215 ]
الذي صنعوا ولو فرضنا ان الامر راجع إلى التقليد فقط فانا نقول لهم انكم لن تجدوا في جميع علمائكم الذين تقلدونهم من يداني أو يقارب امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه علما وعملا وورعا واحتياطا في الدين وحرصا على الحق وسابقة في الاسلام واقواله في معاوية وسبه ولعنه اياه وكشفه قبائحه وتحذيره من متابعة ضلاله مشهور متواتر وقد قدمنا طرفا من ذلك فهلا قلدتموه واتبعتم ما قاله اوليس هو اولى بالتقليد من اولئك العلماء الذين قلدتموهم واجدر بمعرفة الحق منهم ويحكم اتظنون اصابة مقلديكم وخطأ باب مدينة العلم علي بن ابي طالب كرم الله وجهه وامثاله من كبار الصحابة وكبار التابعين ان هذا والله لهو الخبط والغباوة وخدع النفس والهوى اليس قد جاء عن المعصوم صلى الله عليه واله وسلم في حق علي عليه السلام ما يدل صريحا على انه لا يفارق الحق في اقواله وافعاله واعماله كلها حتى ادعى له العصمة بسبب ذلك جماعة من اهل البيت الطاهر ولنذكر طرفا منهما تقوم به الحجة على الخالفين وتطمئن إليه نفوس الموافقين. اخرج الحاكم والطبراني في الاوسط عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال علي مع القرآن والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض. واخرج الطبراني والحاكم وابو نعيم عن زيد بن ارقم من حديث وفيه: فانه - يعني عليا - لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلال واخرج ابو نعيم في الحلية عن حذيفة انه صلى الله عليه واله وسلم قال ان تولوا عليا تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطريق المستقيم واخرج الديلمي عن عمار بن ياسر وابي ايوب بلفظ: يا عمار ان رأيت عليا سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فأسلك مع علي واخرج الحاكم عن ابي ذر انه صلى الله عليه واله وسلم قال من فأرق عليا فارقني ومن فارقني فقد فارق الله (واخرج) الديلمي عن ابي ذر انه صلى الله عليه واله وسلم قال يا علي انت تبين للناس
---(1/215)


[ 216 ]
ما اختلفوا فيه من بعدي (واخرج) الطبراني عن سلمان من حديث قال فيه صلى الله عليه واله وسلم هذا فاروق هذه الامة يفرق بين الحق والباطل يعني عليا (واخرج) نحوه الطبراني عن ابي ذر وابن عدي والعقيلي عن ابن عباس (واخرج) ابو يعلي وسعيد بن منصور عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله الحق مع ذا الحق مع ذا يعني عليا (واخرج) الخطيب عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله انا وهذا حجة على امتي يوم القيامة يعني عليا (واخرج) الحاكم في المستدرك عن علي ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال ان لله سيهدي قلبك ويثبت لسانك (واخرج) أبو نعيم في الحلية عن ابي بردة ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال ان عليا راية الهدى وامام الاولياء ونحو هذه الاحاديث كثيرة وهي وان لم تقتض العصمة لعلي على قول الجمهور لكنها تدل دلالة قوية على انه لا يفارق الحق وعلى انه اعلم الصحابة حتى انه لم ينقل انه استفتى احدا من الصحابة في مسألة مامع ان رجوع اكابر الصحابة إلى اقواله في المشكلات مشهور ومستفيض إلى قول ابن عباس ان عليا احرز تسعة اعشار العلم ووالله لقد شاركنا في العاشر وإذا كان كذلك فلم لا يكون تقليده احق واصوب من تقليد فلان وفلان ولكن على من تقرأ زبورك يا داود انك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا اولوا مدبرين وما انت بهادي العمي عن ضلالتهم ان تسمع الا من يؤمن باياتنا فهم مسلمون. ولربما يقول القائل انه نقل ايضا عن بعض السلف من اهل القرن الثاني والثالث القول بتعديل معاوية في الرواية وان السلامة متيقنة في السكوت عنه وهذا هو قول الاشعري والما تريدي. فنقول اما القول بتعديله فقد مر الجواب عنه في الشبهة الاولى واما القول بان السلامة متيقنة في السكوت عنه فليس مراد القائلين بذلك السكوت
---(1/216)

43 / 54
ع
En
A+
A-