[ 202 ]
هو المجتهد وشهادة ابن عباس قطعيه واطالوا في ذلك بما يضجر المطالع ويفسد ذهن السامع قبلوا شهادة ابن عباس لمعاوية ونعم الشاهد ولم يقبلوا شهادة مولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن ابي طالب كرم الله وجهه حيث يقول لمعاوية كما في نهج البلاغة دخلت في الاسلام كرها وخرجت منه طوعا واسقطوا شهادته (ع) فيما نقله الثقاة عنه انه قال ان معاوية وعمرا وابن ابي معيط وحبيبا وابن ابي سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن انا اعرف بهم منكم قد صحبتهم اطفالا ثم رجالا فكانوا شر اطفال وشر رجال ونبذوا ايضا شهادة قيس بن سعد بن عبادة الانصاري في كتابه إلى معاوية يقول فيه انا انصار الدين الذي خرجت منه واعداء الدين الذي دخلت فيه وامثال هذه الشهادات على معاوية من كبار الصحابة كثيرة جدا لا يمكن حصرها. بماذا شهدابن عباس لمعاوية ؟ ! قال انه فقيه حيث اوتر بركعة، ان الفقه بهذه المسألة التي خالف بها عمل النبي واصحابه يكاد ان يكون من قبيل الحيل في دين الله ويوضحه قوله دعه فلو كان ذلك محمودا لامره بالاقتداء به (اخرج) الطبراني في الفردوس عن ابن عباس ايضا ان رسول الله صلى الله عليه وآله قال آفة الدين ثلاثة فقيه فاجر وامام جائر ومجتهد جاهل. اما الحديث الذي اشار إليه الامام النسائي فهو ما رواه مسلم عن ابن عباس رضى الله عنهما انه كان يلعب مع الصبيان فجاء له النبي صلى الله عليه وآله فهرب وتوارى فجاءه وضربه بين كتفيه ثم قال اذهب فأدع لي معاوية قال: فجئت فقلت هو يأكل ثم قال: اذهب فأدع لي معاوية قال: فجئت فقلت هو يأكل فقال لا اشبع الله بطنه انتهى روي انه كان يأكل إلى ان يمل فيقول ارفعوا فوالله ما شبعت ولكن مللت وتعبت كأن داء اصابه بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله قال الشاعر يصف رجلا اكولا.
---(1/202)
[ 203 ]
وصاحب لي بطنة كالهلوية * كأن في امعائه معاوية وقد ذكر المؤرخون ان معاوية يجمع على مائدته سبعين صنفا من الطعام يقول انصار معاوية ان معاوية لحليم حاذق وان الحلم لخلة شريفة ومنقبة عظيمة وان الحذق لسجية محمودة تناقلوا ذلك في اسفارهم وتمثلوا به في اخبارهم واشعارهم وربما جر بعضهم قصوره عن ادراك الحقائق إلى الزعم بأن معاوية كان اصح فكرا وابعد غورا وادق ادراكا من علي عليه السلام وربما ظن ذلك البعض بنفسه حيث عرف ذلك واستخرجه من ماجرياتهما وسببرتهما انه من الخاصة اهل التحقيق والانصاف والتمييز مع ان الامر بخلاف ذلك والقائل به عامي يقول ببادي الرأي ويستعجل في الحكم على القضايا قبل الفحص التام عن اسبابها وموانعها ومقتضياتها وتمحيصها للحكم عليها ولعمري انه لاجدر بما قيل. ما انت بالحكم الترضى حكومته * ولا الاصيل ولاذى الرأي والجدل ولو تتبع تلك القضايا وعرفها حق المعرفة لادرك ان حلم معاوية انما هو خبث وحيلة ونفاق ومراوغة وايضاح هذا الامر وبيانه يقتضي التمهيد له بذكر ما كان من التفاوت بين حال علي عليه السلام في سيرته وبين حال معاوية ومن يشاركه في ارائه كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وذلك ان عليا كرم الله وجهه كان لا يستعمل في حروبه وسائر افعاله الا ما يوافق الكتاب والسنة ملازما في جميع حركاته قوانين الشريعة مدفوعا إلى اتباعها رافضا ما كان يستعمله المشركون في الجاهلية والبغاة القاسطون في الاسلام في حروبهم من المكر المحظو والخبث والدهاء والغدر والحيلة والتغرير بالاجتهاد في مقابلة المنصوص وتخصيص العمومات بالآراء لتوافق الهوى وغير ذلك مما لاترخص فيه الشريعة ولا يرضاه الله ولا رسوله فكان كرم الله وجهه يقول لاصحابه لا تبدأوهم بالقتال حتى يبدأوكم ولا تفتحموا بابا
---(1/203)
[ 204 ]
مغلقا لانه كرم الله وجهه كان ملجما بلجام الورع عن جميع القول الا ما كان فيه لله رضى وممنوع اليدين عن كل بطش لا ما ارتضاه الكتاب والسنة ومنقطع عن كل تدبير الا ما اذن الله فيه فكان مجال التدبير عليه ضيقا ومن هذا التضييق وقعت امور كثيرة ينسب إليه القاصرون التقصير فيها كعدم اقراره معاوية على الولاية في اول خلافته ثم يعز له بعد ذلك لما يعلمه في تقريره من الظلم والجور وكعدم ارضاء طلحة والزبير بتوليتهما المصرين كما طلبا حتى فأرقاه وكمخاشنته في الله لبعض اصحابه كأخيه عقيل وشاعره النجاشي ومقصلة بن هبيرة حتى فارقوه إلى معاوية كما نسبوا الفاروق رضى الله عنه إلى قصور الرأي في تنفيره جبلة بن الايهم والتشديد عليه في طلب القصاص بلطمة لطمها رجلا وطئ ازاره حتى ارتد بسبب ذلك جبلة عن الاسلام وارتد بأرتداده الوف من اتباعه وفي امره بحرق مكتبة الاسكندرية واحراقه قصر سعد بن ابي وقاص بالكوفة ومشاطرته كثيرا من عماله اموالهم وامثال هذا ولا غروان من اقتصر على الكتاب والسنة فقد حجر على نفسه الواسع ومنع نفسه الطويل العريض وما لا يتناهى من المكائد ووجوه الفلج والظفر. وكان معاوية واصحابه غير متقيدين بدين ولا ملتزمين في الباطن لشريعة بل كانوا يستعملون المكر والخبث والغدر والكذب والتغرير والتأويل مما يستخرجون به وجوه مصالحهم سواء كان جائرا في الشرع أو محظورا وسواء اكان فيه سخط الله تعالى ام رضاه ومن المعلوم البديهي ان الصدق والكذب معا اوسع مجالا من الصدق وحده وان الحلال والحرام معا اكثر طرقا من الحلال وحده فأتسع بذلك لمعاوية واصحابه مجال التدبير من التفريق بين الناس بالكذب والغاء الكتب المزورة في العسكر بالسعايات ودس السموم في الاطمعة وبذل الرشوة يمن مال الله وامثال ذلك من المكائد الاثيمة وزخارف
---(1/204)
[ 205 ]
القول المفتعلة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم واكثرهم فاسقون افأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون. ولما رأى قاصرو النظر نوادر معاوية وعمرو في المكائد وكثرة غرائبهم في الخديعة ولم يروا مثل ذلك من علي كرم الله وجهه توهموا ان ذلك من رجحان عند معاوية ونقصان عند علي عليه السلام وجرهم ذلك إلى الحكم بما زعموا ثم إذا رميت بنظرك إلى خدائع معاوية وعمرو وجدت اكبرها رفع المصاحف ولم ينخدع بها علي كرم الله وجهه بل ادرك لاول وهلة انها مكيدة لطلب الخلاص والنجاة ونبه اصحابه عليها لولا ان بعض اصحابه لما فيهم من الغرارة والتسرع والطيش انخدعوا بذلك وآل بهم الامر الى التنازع فوافقهم الامام خشية الافتراق ومثلها صنعوا في تعيينهم ابا موسى الاشعري حكما من جانب علي عليه السلام واصرارهم وتصميمهم على ذلك وهو يعلم ما عند ابي موسى من الانحراف عنه والغبارة فيه الا انه كرم الله وجهه قيد امر انتحكيم بكتاب الله حتى لا يلزمه ما خالفه من فعل الحكمين قال: ابو الفرج بن يزيد الكلاعي قالوا لعلي كرم الله وجهه حكمت كافرا ومنافقا فقال ما حكمت مخلوقا ما حكمت الا القرآن (1) وقد اشار كرم الله وجهه إلى جميع ما قدمناه بكلمات وجيزة مذكورة في نهج البلاغة قال كرم الله وجهه والله ما معاوية باد هي مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهة الغدر لكنت من ادهى الناس ولكن لكل غدرة فجرة وكل فجرة كفرة ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة والله ما استغفل بالمكيدة ولا استغمز بالشديدة (انتهى). ويتمشدق بعض الطائشين ويتبجح بترديده على اللسان ان معاوية خال
---
(1) استدل اهل السنة بهذه المقالة عن علي كرم الله وجهه على ان القرآن ليس بمخلوق ولولا صحتها عندهم لما احتجوا بها في مسألة يطلب فيها اليقين والقطع (انتهي). (*)
---(1/205)
[ 206 ]
المؤمنين وقد اخذ هذه الخوؤلة من جهة كون معاوية اخا لام المؤمنين ام حبيبة رضي الله عنها واخو الام خال لغة ويظن الطائش ان بتلك الخؤولة التي زعمها لمعاوية شرفا ونسبا بينه وبين المؤمنين ومادري الغبي انه لا يمكن ولا يصح اطلاق لفظ الخال على احد من اخوان امهات المؤمنين رضي الله عنهن حقيقة لان الله سبحانه انما نزلهن منزلت الامهات للمؤمنين في التحريم واستحقاق التعظيم فقط لا منزلة الام بجميع معانيها فان الام الحقيقة هي الوالدة قال الله تعالى ان امهاتهم اللائي ولدنهم وانهم ليقولون منكرا من القول وزورا. وكما نزلت زوجات النبي عليه وآله الصلاة والسلام منزلة الام فيما مر فكذلك نزلت المرضعة مع قرابتها في منزلة الام الحقيقة في تحريم المناكحة فقط لا في كل معانيها من التوارث ووجوب الطاعة والنفقة وغيرها. ولو صح ان يقال ان معاوية خال المؤمنين لصح ان يقال ان حيي بن اخطب اليهودي جد المؤمنين فمن كان معاوية خاله فحيي جده ولكانت بنات ابي سفيان بل وبنات ابي بكر وعمر خالات المؤمنين كيف وهن متزوجات بأبناء اخواتهن ان هذا والله لهو التلاعب بكتاب الله واحكامه ماذا يقول الفقيه فيما لو علق رجل طلاق زوجته بقوله ان كان معاوية خالي اوحيي جدي فزوجته طالقة اتراه يمضيه ويفرق بينهما لااظن قاضيا يتجاسر على ذلك ولا حول ولا قوة الا بالله. اما كتابة معاويد للنبي صلى الله عليه وآله فصحيحة كما جاءت في صحيح مسلم وفي حديث اسناده حسن ان معاوية كان يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وآله قال المدائني كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي صلى الله عليه وآله فيما بينه وبين العرب (انتهى) وتلك فضيلة لا تنكر اما كتابة معاوية للوحي والتنزيل فلم تصح ومن ادعى ذلك فليثبت آية نزلت فكتبها معاوية
---(1/206)