[ 10 ]
وقد يوجد في الناس من ينكر علينا هذا التناقض !. فأني سجلت على نفسي اني لم اتعرف عليه ولا التقيت معه، ثم ادعيت اني عرفته والتقيت معه !. ولا شك بأن هذا الانكار انما يرجع في غالب الاحيان إلى ما تهيأ لهؤلاء من تفكير بسيط لا يتجاوز مد العين الباصرة، ويعجزون إذا حاولوا أن يطلقوا الفكر ويحلوا قيوده ويفتحوا له باب القفص لئلا يبقى الفكر يضطرب في أضيق مكان. يعجزون عن أن يصلوا بتفكيرهم إلى أكثرهما تقع عليه حاسة البصر فقط. انك لتمر في السوق والمراكز العمومية فيقع بصرك على العشرات لا بل على المئات وعشرات المئات فلا يلفت نظرك واحد منهم ولا تلفت انت نظر واحد
---
توفى والده وهو بن خمسة عشرة سنة ومع صفر سنه قام مقام والده أحسن قيام ثم رحل وهو في السابعة عشرة من سنيه إلى سنغافورا والبلاد الجاوية فأشتغل هناك بالتجارة وافلح وأول مؤلفاته كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية ظهر بها فضله لدى المنصفين ثم الف كتبا كثيرة كلها من خيرة ما الف كالعتب الجميل على أهل الجرح والتعديل وغيره. وآخر كتاب له - وهو كتاب جليل جدا - كتاب ثمرات المطالعة يبلغ زهاء ثمانية الف صفحة وكان شرع في مصر بطبع الجزء الاول منه. ومن أجل اساتذته المرحوم المقدس السيد أبو بكر بن شهاب. وللفقيد رحلات كثيرة في سبيل الدين والعلم والتجارة ولم يكن المال لديه سوى اداة لقضاء الحاجة لذلك كان ينفق ما جمعه وهو غير قليل في سبيل البر والاحسان. حج ثلاث مرات وزار العراق وسورية ومصر خاصة عدة مرات كما زار الهند واليابان والصين وغيرها من الاقطار الشرقية وزار كثيرا من عواصم اوروبة لاسيما پاريس وحضر معرضها الكبير وخطب هناك واجتمع بكثير من المستشرقين وله معهم مساجلات ومحاورات لطيفة. وكان يكتب أحيانا في الصحف فكتب في المؤيد والمقطم والاهرام والعرفان ولما زار امام اليمن اكرم مثواه وحمله من الحديدة إلى صنعاء في طائرة وخصص له مكانا خاصا في جانب غرفته وابقاه في كنفه شهرين كاملين وقد توفى الفقيد سنة 1350 في المكلا باليمن وقد عطلت المحاكم في اليمن لوفاته وسارت العساكر في جنازته منكسة الاعلام. - عن مجلة العرفان - صيدا - (*)
---(1/10)


[ 11 ]
منهم، ولكنك تذهب إلى الوراقين - باعة الكتب - والمكاتب العامة فتجلس إلى العلماء من فلاسفة وفقهاء ومتصوفه وحكماء ووعاظ وادباء وساسه وشعراء فتجادلهم وتناظرهم وتفلجهم بالحجة حينا ويفلجونك، انت صامت وهم صامتون أنت متكلم وهم متكلمون، وفي ظل هذا النقاش الصامت تتعرف عليهم وتلتقي بهم فتكون منهم على اوثق ما يكون من الصلاة. وليست الصلة بالاجسام مما تستريح إليها جميع الاذواق وتلتذ بها جميع النفوس، ولكن صلة النفس بالنفس هي التي تتنعم بها النفوس وتلتذ بها العقول بما تفيض عليهما من الوان المعاني من كل بديع وكل دقيق. * * * أنا لم اشاهد السيد محمد بن عقيل ولم اتعرف عليه بالمشاهدة ولكن في المكتبة تعرفت عليه واجتمعت مع هذا الرجل، الكبير في ادبه، الواسع في اطلاعه، الصريح في أنصافه. في المكتبة عرفته وساجلته في الحديث، وفي المكتبة يتعرف عليه كل من لا يعرفه ويريد ان يتعرف عليه وفي المكتبة يستطيع القارئ ان يتعرف على العلماء، والفلاسفة والحكماء، والادباء والشعراء، والمؤرخين والمحدثين، بل يجتمع مع الانبياء والمرسلين، وان كانوا جميعا قد غيبتهم الارض وأكلت لحومهم ونخرت عظامهم. وأنا أيضا التقي معك يا قارئي هنا وان كانت أنا في شرق الارض وانت في غربها. وبعد - فلا اظن ان أحدا يجادلني إذا ما قلت اني التقيت مع الشريف محمد بن عقيل ولم أره، وتعرفت عليه ولم اشاهده، لان الكتاب عنوان مؤلفه ويعطي صورة عنه تسير مع الاجيال مادام الكتاب موجودا يقرأ ويتعرف عليه كل من يقرأ كتابه، ولا أريد الكليه المنطقية المسورة بكل ولكنه في الكثير الغالب وانما اقيده بالغالب لان في طبقات القارئين من لا يأخذ
---(1/11)


[ 12 ]
صورة عن المؤلفين عند قراءة كتبهم وانما يخرج من الكتاب كما دخل وكلما فعله انه اجتاز قطعة من الزمن لاهيا عن آلامها لا اكثر ولا أقل. * * * ولسنا نريد في هذه الكلمة القصيرة ان نقدم المؤلف إلى جمهرة القراء وانما كتابه هذا ومؤلفاته الاخرى (1) هي التي تقدمه علامة بحاثة. وكذلك لا نريد ان نقدم إلى القراء كتابه - النصائح الكافية لمن يتولى معاوية - فان الكتاب يقدم نفسه بنفسه دون ان يحتاج إلى أحد يقدمه. وكذلك لا نجد متسعا لتقديم الكتاب والمؤلف، لان الكتاب اشتمل على صفحة علمية أنيقة جميلة والمؤلف بلغ أقصى ما أراد في الجهة التي اختار الكتابة فيها فلم يبق مجال للنقد، ولا ثمة نقص يحتاج إلى التعليق، وكل من المؤلف والكتاب غني عن الثناء والمدح والجزاء موكول إلى الله عزوجل. ويقف الباحث في هذا الكتاب وفي سائر مؤلفاته التي رأيناها على أراء سديدة محكمة في نقد الحوادث لم تعرف لغيره من قبله، وعلى ما يبدو لنا ان المؤلف وقف امام الميزان - في كل تأليفه - مجردا عن كل شئ الاكتاب الله المجيد وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المطهرة. واذن كل ما أريده الآن ان اتحدث إلى القارئ ببضعة سطور عن انصاف هذا المؤلف في خلعه الثوب الذي لبسه غيره ممن تقدم عليه فأحترم كل من شاهد النبي وصاحبه حتى لو كان معاوية وأباه ومروان واباه وبسر ابن ارطاة وعمران بن حطان واضراب هؤلاء. يعرف المتصلون بعلمي الرجال والجرح والتعديل ان صراعا عنيفا بين * * *
---
(1) رأينا منها كتاب تقوية الايمان وكتاب العتب الجميل في الجرح والتعديل وفصل الحاكم في النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم. (*)
---(1/12)


[ 13 ]
الطائفتين الكبيرتين من المسلمين اهل السنة والشيعة حول اصحاب النبي صلى الله عليه وآله واستطاعت العقيدة والسياسة أن يلعبا دورا مهما في هذا النزاع الحاد بين الطائفتين وأستمر النزاع يشق طريقه بين الحديد والنار إلى الاجيال يستمد قوته من العقيدة لاغيا كل اعتبار من الاعتبارات الاخرى وحال دون التعاون بين المسلمين وتأخر الاسلام بسبب هذا الصراع حتى اوشك النزاع ان يقضي عليه. أجل، انقسم المسلمون إلى قسمين: قسم البس صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثوبا من القداسة الغير المحدودة بحد ولا يمكن ان تتناولها يد، ولا يمكن للعقول ان تحوم حولها في لحظة من اللحظات ولا في حال من الاحوال وهؤلاء اعتبروا ان الصحبة لا يمكن ان تنتج الا ما يصح ان يكون، وهي وحدها كافية لتبديل آثار البيئة والوراثة وهي قادرة على تحول النفوس الشريرة إلى نفوس صالحة فحكموا على جميعهم بالطهر والقداسة !. وقسم من المسلمين لم يعتبر الصحبة الا شرفا يغبط عليه الصحابي فقط واما القداسة والطهر فأمران خارجان عن الصحبة ومرجعهما واقع الامر في كل صحابي فمن عمل منهم صالحا واتقى الله سبحانه حق تقاته وعمل بأوامر الله ورسوله ولم يقترف اثما من قتل وظلم واعتداء فذلك هو الصحابي الواجب علينا تقديسه واكباره واما من أقترف شيئا من اثم فليست الصحبة حارسة له وهو كغيره من المسلمين الذين يلقون آثاما. وعند هذا القسم من المسلمين الصحبة وتقوى الله يتعاونان على قداسة الصحابي وطهره. واذن لابد لهذا القسم ان يأخذ الغربال فيغربل ويأخذ مبضعة الطبيب فيشرح. وهكذا فعل هذا القسم، غربل بأنصاف ما وسعه ان يغربل ولم يبال بصيحات المرجفين. وليس من موضوعنا ان نتحدث هنا
---(1/13)


[ 14 ]
عن مصاير هذه الغربلة فقد استطاعوا ان يذودوا عن آرائهم ببراهين قاطعة. والمؤلف لم يسلك سبيل قومه فلم يخلع على سائر، الصحابة ثوب القدس والطهارة واستطاع ان ينزع ذلك الكابوس عن عقله فأشفق على صحب النبي صلى الله عليه وآله عن ان يدنسهم فيدس فيهم من يلوث شرف الصحبة. فأستمع إليه يقول: " والصحابة الذين يصدق عليهم التعريف المخترع الحادث وتحوي المعاجم اسماء كثير منهم قسمان: قسم اخلص في الايمان واحسن الصحبة ووفي بالحق فهو محمود ممدوح أهل للثناء والتعظيم والاحترام من كل مسلم. " وقسم نافق واساء الصحبة وخان وغدر وهو مذموم عند كل مصنف. " لا يستوى اصحاب النار واصحاب الجنة. أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض " الآية واسمعه أيضا يقول: " ان صحبة النبي صلى الله عليه وآله شرف عظيم. ومرتبة سامية، ومنزلة عالية، واصحابه صلى الله عليه وآله متفاوتون في فضلها وشرفها بقدر ما احسنوا فيها. وإذا عصي أحد منهم وحاد الله ورسوله وارتكب الكبائر وأصر على معصيته فقد ترك ما اوجب له المحبة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ ليس عند رسول الله صلى الله عليه وآله محاباة ولا مداهنة في عداوة من الله وعصاه. ومن الغباوة ان لم تقل من العناد اهدار كل كبيرة وموبقة بدعوى حرمة الصحبة. لاشك ان للصحبة حرمة عظيمة وشأنا فخما. ولكن مقيد بما قدمنا. " تحس وانت تقرأ هذا ان المؤلف يرى ان الصحبة لا تمتد الا إلى أفراد مخصوصين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، وان أثر الصحبة وشرفها لا يكون بارزا الا في الرجال الذين أخلصوا في ايمانهم واحسنوا ووفوا بما عاهدوا الله وهم قليلون اولئك هم الذين فازوا بالقدس
---(1/14)

3 / 54
ع
En
A+
A-