ولما كان التسليم إلى الإمام مستجمعاً لهذه الفضائل حرص الشيطان على ترك التسليم إليه، وقد حذر اللّه تعالى عن ذلك فقال:? وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان?(المائدة: 2)، مع أن القائم في زماننا هذا بين أناس قد أخذت الفانية بأزمّة قلوبهم، وقل المؤمنون فيهم، فلا ترى من يلتفت إلى الدين ولا إلى من يدعو إليه ويذب عن حوزة الإسلام والمسلمين إلاّ بإعطاء شئ من الدنيا وإطعامه منها وإلاّ ضرب عن الدين صفحاً، وطوى عنه كشحاً، وأضر بأهل الإسلام وتابع الفجرة الطغام، فكيف يحسن عدم التحريض على شيء لم يثبت الالتزام للإمامة إلاّ به، وإلاّ صار رسم الدين خالياً من الأنيس لم يبق منه إلا على أخبار طَسْم وجديس، وقد استرسل الكلام والحديث ذو شجون ولكن لا يخلو من فائدة فخذ ذلك أيها الأخ موفقاً.
وحكمنا قد أجزنا لمن أخذ الأذن منا في صرف ثلث واجباته في مصرفها وثلثان يسلم إلينا لنصرفها في مصارفها الشرعية، وإلاّ فنحن منَزهون عنها وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.
تمت الرسالة النافعة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(93/8)


خاتمة
[الحكمة من الخلق]
اعلم أن الحكمة من اللّه تعالى بخلق هذه الدار دار الهموم والأخطار والتقلب والانتقال والفنا والزوال هي البلوى والاختبار ليقع من المكلفين النظر والاعتبار والتفكر والإدكار والعلم والعمل والاصطبار والعبادة الخالصة الموصلة إلى السعادة الأبدية في دار القرار ومساكن الأبرار كما تكرر ذلك في آي القرآن العظيم وعلى لسان النبي الكريم، قال اللّه عز من قائلٍ حكيم ?وما خلقت الجنَ والإنس إلا ليعبدون?(الذاريات: 56)، وقال تعالى ?إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً?(الكهف: 7-8) .
وقد ذم اللّه تعالى الدنيا وحذر عنها وعن الميل إلى بهجتها والاغترار بزخرفها ونَّوه بِمقتها وكشف عن حقيقتها وأن الحكمة بخلقها التوصل إلى النعيم الدائم من غيرها، وسمَّاها متاع الغرور واللّهو واللعب، وضرب فيها الأمثال على تعدد أنواعها كما قال تعالى ? اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهوٌ وزينةٌ وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من اللّه ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور?(الحديد: 20).
وقال تعالى ? واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان اللّه على كل شيءٍ مقتدراً?(الكهف: 45)، قال صاحب الكشاف رضي اللّه عنه: شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتِها وما يتبعها من الهلاك والفناء بحال النبات يكون أخضرَ وارقاً، ثم يهيج مصفراً فتطيره الرياح كأن لم يكن.
وفي الحديث: (( حب الدنيا رأس كل خطيئة )).(94/1)


وروي عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: (( أيها الناس إن هذه الدار دار بلوى لا دار استواء، ومنْزل ترح لا منْزل فرح، فمن عرفها لم يفرح برخاء ولم يحزن لشقاء، ألا وإن اللّه تعالى خلق الدنيا دار بلوى والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، إنها لسريعة الزوال ووشيكة الانتقال، فاحذروا حلاوةَ رضاعِها لِمرارةِ فطامِها، واهجروا لذيذَ عاجِلها لكريه آجلِها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى اللّه خرابها، ولا تُواصِلوها وقد أراد منكم اجتنابها فتكونوا لسخطِهِ متعرضين، ولعقوبتِهِ مستحقين )) رواه الشريف أبوالقاسم زيد بن عبداللّه بن مسعود الهاشمي في الأربعين.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم (( ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها )).
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم يقول: ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر اللّه وما والاه وعالم ومتعلم )) أخرجه الترمذي.
وأخرج الترمذي من حديث سهل بن سعد قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة )).
وعن علي عليه السلام قال : (( ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل )). أخرجه البخاري.(94/2)


ومن كلام الوصي عليه السلام في ذكر الدنيا قوله: (( هو الذي أسكن الدنيا وبعث إلى الجن والإنس رسله ليكشفوا لهم من غطائها، وليحذِّروهم من خرابها، وليضربوا لهم أمثالها، ويبصروهم عيوبها، وليهجموا عليهم بمُعتَبرٍ ـ من تصرف مصاحِها وأسقامها وحلالِها وحرامِها ـ وما أعدّ للمطيعين منهم والعصاة من جنة ونار، وكرامة وهوان ))، رواه عنه الإمام المؤيد باللّه يحيى بن حمزة عليه السلام في كتاب الديباج الوضي في الكشف عن أسرار كلام الوصي.
فعلى العاقل إن كان لبيباً أن ينظر لنفسه النجاة في يوم يجعل الولدان شيباً، ومجمع النجاة في العلم النافع والعمل الخالص فقد قال صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم))، ووجه الخطر ما أشار إليه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحديث الآخر وهو قوله: ((حراسة العمل أشد من العمل ))، والحراسة إنما تكون بالاحتراز عن المحبطات الظاهرة والباطنة من معاصي الجوارح والقلوب بعد إحراز العقيدة الصحيحة ثم العلم والعمل، فإنما تتم النجاة لمن علم فعمل فأخلص فحرس ذلك العمل.(94/3)


[حكم طلب العلم الشرعي]
واعلم أن تعلّم أحكام الشريعة والتفقه في الدين فرض واجب وحكم لازب وذلك ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: فرض عين يجب معرفته على كل مكلف، وذلك تعلّم القدر الذي لابد منه من أصول الدين كما مر.
ويلحق بذلك تعلّم أحكام الصلاة والصوم وجميع العبادات المتعلقة بالمكلف مثل أحكام الحج لمن استطاع، وأحكام الزكاة لمن وجد النصاب، وغيرها مما يتعلق بالمكلف فعلاً وتركاً ليعلم أنه قد امتثل ما كلف بشروطه وفروضه وجميع أركانه، واجتنب ما يفسده ويبطله، وخرج عن عهدة التكليف به.
ويلحق بذلك تَعلُّم أحكام المعاملات التي يريد الدخول فيها مثل النكاح والطلاق والتجارة وغيرها لأنه لا يأمن الوقوع فيما هو محظور، أو الإخلال بما هو به مأمور، فقد جاء في الحديث عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من اتجر ولم يتفقه فقد ارتطم في الربا ثم ارتطم)) .
والقسم الثاني: فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وذلك مثل علوم الاجتهاد وسائر أحكام الشريعة التي لا تعلق للمكلف بها، لأن حفظ الشرائع واجب وتبليغها واجب لقوله تعالى ? لأنذركم به ومن بلغ?(الأنعام: 19)، وقوله تعالى ? فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون?(الأنعام: 122)، وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((ليبلغ الشاهد الغائب ))، وغير ذلك من الكتاب والسنة.
[الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين]
واعلم أنه لا فرق بين فرض الكفاية وفرض العين في الابتداء لتعلقهما بجميع المكلفين، وإنما يفترقان في الانتهاء، أعني عند قيام البعض به والكفاية فيه.
كفانا اللّه تعالى مهمات الدنيا والدين، وجعلنا من عباده الصالحين المخلصين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وغفر لنا ولكافة المؤمنين، آمين اللّهم آمين وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله الطاهرين.(95/1)

28 / 29
ع
En
A+
A-