وقال عليه السلام في المجموع ما لفظه: ((والزكاة كلها إلى إمام المسلمين من ولد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ? خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها?(التوبة: 103)، ثم أمر خلقه أن يدفعوا ذلك إليه فقال تعالى ? وآتو حقه يوم حصاده ولا تسرفوا?(الأنعام: 141)، فيقول لا تدفعوا إلى غير المحق، فإذا عدمت الرعية هذا الإمام ولم يوجد على ظهر الدنيا شرقها وغربها وجب أن يقسموها في خمسة أصناف بين الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم وفي الرقاب ويتركوا الثلاثة .)) انتهى كلام الهادي عليه السلام في الأحكام والمجموع.
قلت: وعموم الدليل يقتضيه نحو قوله تعالى ? يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم?(الأنفال: 24) الآية، وقوله تعالى ? يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم?(النساء: 59).
وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبّه اللّه على منخريه في نار جهنم ))، فعلق وجوب الاستجابة والوعيد على الدعاء وسماع الإجابة، وان المقصود بنفوذ الأوامر في اللغة الدعوة.
وأيضاً فإن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بعث السعاة في طلبها إلى أقاصي البلاد وأدناها وأوهاطها وصياصيها كعمرو بن العاص إلى ابني الجلندي ملِكَيْ عُمان، فإنهما أسلما وأطاعا، وأقام لقبض الواجبات، وإقامة الجمعة والحدود إلى أن مات صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وأرسل صلى اللّه عليه وآله وسلم علياً كرم اللّه وجهه في الجنة ومعاذاً وأباموسى إلى تخوم اليمن حتى قال معاذ: ائتوني بكل خبيس ولبيس فإنه أيسر عليكم وأنفع لمن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.
وأرسل إلى النجاشي وغيره ممن أرسل صلى اللّه عليه وآله وسلم لقبض واجباتهم طوعاً منهم لا إجباراً لهم.(93/3)


فمن منع من ذلك يكون عاصياً لله ولرسوله؟ أم غير عاص؟ لعدم نفوذ أوامره صلى اللّه عليه وآله وسلم، فحصل من هذا وجوب تسليم الزكاة إلى الإمام بعد ظهور دعوته مطلقاً.
فإن قلت: قد شفيت بواضح الدليل جرح العليل، فما حكم من أظهر إلى الداعي إلى اللّه والذاب عن دين اللّه كما ذلك عادة كثير من المتشيعين وأهل التدريس في كتب المفرعين فلا يزالون يفتون بعدم تسليم الواجبات إلى الإمام وصرفها من دون إذن منه ـ فما حكم الصارف والآخذ والمفتي؟
قلت: ذكر الإمام المنصور باللّه عبداللّه بن حمزة عليه السلام أن من أخذ الزكاة في عصر الإمام معتقداً جواز الأخذ كان ردةً لرده ما عُلم من الدين ضرورة، وإن أخذ وهو عالم بالتحريم كان فاسقاً، قال الإمام عز الدين بن الحسن عليه السلام وكذا يكون عنده حكم الصارف إذ لا فرق.
ويعضد كلام الإمام المنصور باللّه ما ذكره الهادي عليه السلام في وصيته التي خطها عهد بينه وبين ربِّه إذ قال:
(( وأشهد أن الجهاد بالنفس والمال أفضل ما تعبد اللّه به عباده، وأن تاركه بعد ظهور واحد منا أهل البيت كافر باللّه جاحد، ولله سبحانه معاند، هذا قول يحيى بن الحسين وعليه يموت.)) انتهى كلامه عليه السلام ولم يفصل بين مال ومال، وهذا أمر مقلق فيجب على كل مسلم الانتباه وسلوك سبيل النجاة.
ويصحح ما قاله الإمامان عليهما السلام ما كان من أمر الصحابة في شأن بني حنيفةً وأشكالهم الذاهبين إلى ما ذهبوا إليه، وذلك أن بني حنيفة لما مات النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وامتنعوا من تسليم الزكاة إلى أبي بكر وقالوا: ((قال اللّه ?خذ من أموالهم صدقة?(التوبة: 103)، والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأبو بكر لم يخاطب بالأمر بالأخذ، ولا صلاته سكن لمن أخذ منه، فنحن نفرقها في فقرائنا والصحابة قد صاروا أغنياء حتى قال قيس بن عاصم المنقري شعراً:
وآيست منها كل أطلس طامع
حبوت بها من منقرٍ كل بائسٍ

وقال قائل بني حنيفة:(93/4)


فواعجا ما بال دين أبي بكر
لكالتمر أو أحلى لديّ من التمر
أطعنا رسول اللّه إذ كان بيننا
وإن الذي سألتموا ومُنِعتموا

فلما كان منهم ذلك استشار أبو بكرالصحابة في شأنِهم، فكان من رأي عمرالإمساك عن حربهم وتركهم يصرفونها لمن عندهم لقوة شوكتهم وقرب عهدهم بالإسلام، وتشدد أبو بكر وقال: واللّه لا أباقيهم، إذاً يصير فعلهم سُنة في الإسلام، ولو منعوني عِقالاً ـ أو قال عناقاً ـ مما أعطوه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لحاربتهم عليه. فصوبه الصحابة وأجمعوا على حربهم، وأرسل أبوبكر إلى مجاوريهم من المسلمين ليأخذوا الحذر منهم، ويحفظوا أطرافهم، حتى استتم أمره وبيّتهم الصحابة، وقتلوهم وهم يشهدون أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه صادقاً فيما أتى به، وسبَوْهم وقتلوهم والأذان في مساجدهم، وكان في الصحابة أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأخذ خولة بنت يزيد أو بنت جعفر سبية واستولدها محمد بن الحنفية، وكذلك الصهباء بنت ربيعة من بني تغلب واستولدها محمد آخر ورقية وعمر وغيرهم، مع أن إمامة أبي بكرلم يكن مقطوعاً بها، لأنهم لم يثبتوها إلا بدعوى الإجماع، ولم يستقر إجماع مع خلاف بني هاشم وأفاضل الصحابة كأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر والمقداد وسعد بن عبادة وغيرهم، بل قال الإمام الحسن بن علي بن داود عليه السلام: إن الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر ثلاثون ألفاً، والقائلون بها سبعون ألفاً، لأن جملة الصحابة في الحرمين مائة ألف، رواه عنه القاضي عامر بن محمد الذماري؛ لأن الذين حكموا عليهم بالردة لأجل إنكارهم أن الزكاة إلى الإمام لمّا عرفوا هذا من دين رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ضرورة.(93/5)


وممن أجمع الصحابة على ردته كندة بحضرموت لسبب يتعلق بالزكاة وهو أخف وأهون من هذا، وذلك أن زياد بن لبيد رحمه اللّه أخذ منهم الزكاة فخرج في سهم الصدقة ناقة نفيسة تسمى شذرة فأراد صاحبها إبدالها بجمل آخر فكره ذلك زياد، فتداعى الأمر إلى الحرب، فقام مع زياد البعض ومع صاحب الناقة البعض، فأجلب عليهم المسلمون وحكموا بردتهم وقتلوهم وسَبوْا ذراريهم وكانت شذرة أشأم من البسوس بين بكر وتغلب.
ومن ذلك ما كان من بني ناجيه، فإنهم طلبوا من علي عليه السلام إلحاق نسبهم بقريش فلم يصح له ذلك فوجدوا عليه ومنعوا من تسليم الصدقة إليه عامين عام صفين والعام الذي قبله حتى فرغ لهم وقتلهم وسباهم وأخذ من سبيهم، فما ترى في حال هؤلاء ومقاتلتهم وحكمهم.
وأما كلام الأئمة وإجماعهم على أن الإمام متى طلبها من كل من أمكنه إيصالها وجب عليه ذلك وإلا حورب فشاهر ظاهر كما رواه الهادي في قتل أهل مجز بجهات صعدة وتغنم أموالهم، وبني الحارث بنجران لما تغلّبوا على الزكاة، وما نقلنا لك وحكينا إلا ما ذكره الأئمة وأوردوه كالإمام عز الدين بن الحسن في كتابه المعروف بالعناية التامة في تحقيق مسائل الإمامة مع نقل بعض ألفاظه، وأما ما حكاه الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام والإمام يحيى في الانتصار ـ حكاه عنه الإمام عز الدين بن الحسن ـ وما حكاه المحقق العلامة الشرفي في ضياء ذوي الأبصار وغيره من الأئمة وهو مذهب الإمام المنصور باللّه أحمد بن هاشم سلام اللّه عليه فهو مذهبنا وبه نقول ونعمل ونُلزم.
وأما المفتي فلا يخلو إما أن يكون حاله حال الآخذ والصارف، وإلاّ فمن البدع الشنيعة والأمور الفظيعة ما ظهر من أهل الزمان من التصدي للفتوى والخبط فيها خبط العشوى من دون أن ينتظم المفتي في سلك أهل الانتقاد الفارقين بين الصحيح والسقيم، ومن كان كذلك فحقه السكوت كما قيل ليس بعشك فادرجي.(93/6)


وخير أمور الناس ما كان سنةً وشر الأمور المحدثات البدائع
وقد تجرم الإمام عز الدين ممن حاله كذلك وتوعّد لولا الرجوع إلى العفو والاغضاء، مع أنه يقال للمفتي: إن كان مطمح نظرك كلام أهل المذهب وليس وراءه عندك مأرب ولا مذهب فما المانع إن كان مطلبك رضاء اللّه بالفتوى أن تفتيهم بالأفضل عند أهل المذهب وتبيَّن لهم أن للإمام أن يلزم الناس مذهبه فيما يقوي به أمره ويوصل مآربه كما هو نص أهل المذهب أين أنت عن الالتزام بوجوب الالتزام، وكان عليك أيضاً أن تعلمهم أن التسليم إلى الإمام أحوط وأخذٌ بالإجماع وخروجٌ من الورط، وأن صاحبها يكون مشاركاً في أجر الجهاد وثواب النِزال والجلاد، ولهذا كان تسليمها عندهم إلى الإمام أفضل لأنه يصرفها في المصالح العامة العائد نفعها على كافة الأمة، ولهذا جاء عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه يقال للعابد: أدخل الجنة وحدك فإن عبادتك إنما كانت لك وحدك، ويقال للعالم: ادخل الجنة واشفع لمن شئت أن تشفع فإن نفع عبادتك بالتعليم كان لك ولغيرك، بخلاف الدفع إلى الفقير لمصلحة فيه خاصة وهي سد خلته مع أنه يمكن الأخذ بالطرفين بأخذ الإذن من الإمام.(93/7)

27 / 29
ع
En
A+
A-