ومما يدل على إمامته عليه السلام قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( أنت مني بمنْزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي )).
وهذا الحديث أيضاً متواتر مجمع على صحته عند الموالف والمخالف، وفيه من الكتب المشهورة الصحيحة عند المخالفين أربعون إسناداً غير رواية الشيعة وأهل البيت عليهم السلام، ذكره المنصور باللّه عليه السلام ثم قال: والخبر مما عُلم ضرورة، وقال الحاكم أبو القاسم الحسكاني رحمه الله تعالى: وهذا حديث المنْزلة الذي كان شيخنا أبو حازم يقول حديث المنْزلة خرجته بخمسة آلاف إسناد، وقد دل على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام دلالة واضحة لأنه أثبت له جميع ما لهارون من موسى إلا النبوة، ومن جملتها الخلافة كما قال تعالى ? وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي ?(الأعراف: 142)، وقال ?واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري?(طه: 31)، لا يقال إنما يفيد ذلك لو عاش هارون بعد موسى عليه السلام، لأنا نقول لو عاش لثبت له، تلك المنْزلة قطعاً لقوله تعالى ?قد أوتيت سؤلك يا موسى?(طه: 36)، ولبقاء الأهلية.(83/2)
ومما يدل على إمامته عليه السلام حديث الوصاية، وقد صح إجماع العترة عليهم السلام على أنه صلى اللّه عليه وآله وسلم أوصى إلى علي عليه السلام وإجماعهم حجة قطعية، مع أن أخبار الوصاية قد بلغت في الشهرة قريب التواتر، روى ذلك المنصور باللّه عليه السلام من ست طرق، واستدل على ذلك من جهة الشرع أن اللّه تعالى أوجب الوصية وحث عليها جميع المسلمين، فكيف يجوز أن يخل صلى اللّه عليه وآله وسلم بأمر أوجبه اللّه على سائر المسلمين، وإذا صحت وصايته لم يصح أن يكون إمام غيره مع وجوده لأن معظم الوصاية في أمته ـ صلى اللّه عليه وآله وسلم الذي هو أولى بهم من أنفسهم ـ وإقامة من يقوم مقامه منهم إذ لا يجوز أن يتركهم هَمَلاً يضطربون ويختلفون من دون أن يبين لهم من إليه يرجعون وقد قال تعالى ? اليوم أكملت لكم دينكم?(المائدة:3)، وأين الكمال إذا تركهم محتارين مع علمه بأن الآراء لا تتفق، وأن القلوب لا تتحد، وأن الفتنة قد تنتشر، حاشا اللّه ورسوله، بل قد تركَنا على بيضاء واضحة،وغراء لائحة، ليلها كنهارها، وقد بين ما هو دون هذه المسألة بدُرجٍ بعيدة فما ظنك في هذه المسألة التي هي من أمهات مسائل أصول الدين وعليها تدور رحا الإسلام والشرائع والأحكام، بل قد بينها أوفى بيان، ونوّه بذكر خليفته الوصي عليه السلام في كل أوان في مواقف عديدة ومدة مديدة، كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( وأبوهما خير منهما ))، وكحديث البساط، والعمامة، والراية، والرمانة، والطائر، والسطل، والعقيق، والكوكب، وقل هو اللّه أحد، وحديث لو أن الغياض أقلام، وخبر المؤاخاة، والأخبار الدالة على عصمته عليه السلام، والخبر المروي في قوله تعالى ?وأنذر عشيرتك الأقربين ?(الشعراء: 214)، وقصة براءة، وفتح خيبر، والموارثة، والأخبار الدالة على أنه سيد العرب، وأنه خلق من نور النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وعلي مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي، وحديث المناشدة، وأحاديث(83/3)
الإثني عشر من الصحابة، وغير ذلك، وإن من الأدلة على إمامته عليه السلام بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بلا فصل ما تواتر معنى من الأخبار المصرحة بالإمامة من رواية الموالف والمخالف ما لا يسعه هذه الأوراق وإن تعامى عنه من تعامى:
وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وقد سبقت الإشارة إلى شيءٍ من ذلك، وناهيك أنه عليه السلام في محاسن أخلاقه وخلائقه وفواضله وفضائله قد فاق الكل من الصحابة كما قال الشاعر:
فلو لم يكن نص لقدّمه الفضل ...الخ
وأما الإجماع : فقد انعقد إجماع أهل البيت عليهم السلام على أنه الإمام بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بلا فصل وإجماعهم حجة قاطعة كما ثبت ذلك في مواضعه.(83/4)
المسألة الثامنة والتاسعة:
المسألة الثامنة: أن الإمام بعد علي عليه السلام ابنه الحسن عليه السلام.
المسألة التاسعة: أن الإمام بعد الحسن أخوه الحسين عليهما السلام.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه في هاتين المسألتين من أربع جهات:
إحداها قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: (( الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما ))، وهذا الخبر مما أجمعت عليه العترة وهو نص صريح في إمامتهما عليهما السلام.
وثانيها أن كل واحد منهما قام ودعا وهو جامع لخصال الإمامة فاستحقها بل زادا عليهما السلام على الأئمة من أولادهما بالعصمة وغيرها من الفضائل.
ثالثها إجماع العترة عليهم السلام على إمامتهما عليهما السلام بعد أبيهما وإجماعهم حجة.
رابعها أنهما أفضل الأمة بعد أبيهما بإجماع العترة وأكملها وأكثرها علماً وعملاً وورعاً ونجدةً وغير ذلك مما يوجب لهما الإمامة من العقل والنقل مما لا يحتمله هذا الموضع، وقد سبقت الإشارة إلى شيء من ذلك.(84/1)
المسألة العاشرة: أن الإمامة بعد الحسنين عليهما السلام في سائر العترة عليهم السلام فقط، من قام ودعا من أولاد الحسنين وهو جامع لخصال الإمامة.
والدليل على حصرها فيهم الكتاب والسنة والإجماع وحجة العقل.
أما الكتاب فقوله تعالى ? إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين?(البقرة: 124)، ولم تقع العصمة بعد أهل الكساء إلا لجماعة العترة عليهم السلام إذ كانوا أهلاً للإمامة بتأهيل اللّه لهم، وهذه الآية دالة على إمامة العترة كما هي دالة على إمامة علي والحسنين عليهم السلام، لأنه قد ثبت أن الأفضل أولى بالإمامة من المفضول.
وقوله تعالى ? ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس?(الحج: 78)، أي: ولاة وحكاماً على الناس كما كان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كذلك، وقوله تعالى ?ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه?(فاطر: 32)، وهاتان الآيتان مختصتان بالعترة عليهم السلام، والسابق بالخيرات هو الإمام الشاهر سيفه في جهاد أعداء اللّه تعالى.
وقوله تعالى ? أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم?(النساء: 59)، والمراد بأولي الأمر هم الذين قد علمتموهم بصفاتهم التي لا تخفى عليكم على لسان نبيِّكم صلى اللّه عليه وآله وسلم لأن اللّه تعالى لا يأمر إلا بطاعةٍ معلومة، وروى الناصر عليه السلام عن جعفر بن محمد عليهما السلام لما سأله أبو مريم عن ذلك فقال: هم علي والحسن والحسين وذريتهم عليهم السلام ذكر ذلك أبوالقاسم البُستي في كتابه الباهر.
وقوله تعالى ? قل هذه سبيلي أدعو إلى اللّه على بصيرة أنا ومن اتبعني?(يوسف: 108)، وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده إلى جعفر بن محمد عليهما السلام قال: ((هي ولايتنا أهل البيت لا ينكرها أحد إلا ضال، ولا ينتقص علينا إلا ختّال.))(85/1)