والدليلُ على ما قلنا من التفسيرِ أنَّ الله تعالى قد قال }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]، فلَمَّا رأيناهُ تعالى قد سَمَّى نفسَهُ بتلكَ الأسماءِ كان حَتْمَاً علينا أنْ نُفَسِّرَها بما لا يَتناقضُ مع هذه الآيةِ.
… وهكذا كلُّ ما جاء من أسماءِ الله تعالى وصفاتِهِ فيجبُ أنْ يُفَسَّرَ بِمَا لا يتناقضُ مع الآية، وهي قولُهُ تعالى }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]، }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص/4].
فقولُهُ تعالى }غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ{ [الفتح/6] }رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ{ [البينة/8]، فلا يَجوزُ أنْ يَفَسَّرَ غَضَبُ الله بفورانِ الدَّمِ، وانتفاخِ الأوداجِ، واحمرارِ العينينِ.
ولا يَجوزُ تفسيرُ الرضى: بانشراحِ الصدرِ، وسكونِ دَّمِ القلبِ، وسرورهِ وهدوءهِ، إذْ أنَّ ذلك كلَّهُ تشبيهٌ ومناقضَةٌ لقولِهِ تعالى تعالى }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]، }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص/4].
بل يُفَسَّرُ الغضبُ: بفعلِ الانتقامِ العاجلِ أو الآجلِ أو كليهما.
ويُفَسَّرُ الرضى: بفعلِ الثوابِ العاجلِ أو الآجلِ أو كليهما، أو الحكمُ بذلك.
ومن أسمائه تعالى:
حليم: ومعنى ذلك: أنَّه تعالى لا يعجلُ بالانتقامِ من العصاةِ، بل يُمْهِلُهُم ويُمِدُّهُم بالنِّعَم.
ولا يجوز أن نُفَسِّرَ ذلك: برزانةِ العقلِ، وهدوءِ الأعصابِ؛ إذ أنَّ ذلك تشبيهٌ وتَمثيلٌ لله تعالى بِخلقه، وقد نفى الله ذلك كما ذكرنا سابقاً.(1/36)


وقوله تعالى }بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ{ [المائدة/64] قد تولى الله تعالى تفسيرَ ذلك بقوله بعدها مباشرةً }يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء{ [المائدة/64]، ولا يَجوزُ تفسيرُ ذلك: بأنَّ لله يدينِ اثنتينِ يَبْسُطُهما، إذ أنَّ ذلك تشبيهٌ وتَمثيلٌ له تعالى بِخلقه ـ تعالى الله عن الجوارح والأعضاء ـ }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11].
وقوله تعالى: }تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا{ [القمر/14]، بمعنى: تَجْري في حراستنا وحفظنا.
وقوله تعالى: }يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ{ [الزمر/56]، بمعنى: على ما فَرَّطتُ في طاعةِ الله. إذ التفريطُ إنَّمَا يكونُ في الطاعةِ.
وقوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن/26-27]، معناه: ويبقى ربُّكَ.
وكذلك قوله تعالى { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ } [الإنسان/9]، { فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } [البقرة/115]، ولا يَجوزُ تفسيرُ ذلك بالأعضاءِ والجوارحِ ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ.
وقوله تعالى: }وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ{ [القيامة/22-23] نَاظِرَةٌ بمعنى: منتظرةٌ لرحمةِ الله وثوابِهِ، كما أنَّ وجوهَ العصاةِ تنتظرُ يومئذٍ النِّقْمَةَ الفاقرةَ، والعقابَ الدائمَ.
ولا يَجوزُ أن يُفَسَّرَ ذلك: بأنَّ الله يُرى يومَ القيامة، وذلك أنَّ الرؤيةَ بالعينِ لا تقعُ إلاَّ على المخلوقاتِ، فكلُّ ما يُرى بالعينِ فهو مخلوقٌ مُحْدَثٌ.(1/37)


والدليل على ذلك: أنَّه لا يُرى بالعينِ إلاَّ ما كان جسماً أو عَرَضَاً، والله تعالى ليس بِجسمٍ ولا عَرَضٍ.
[الْمُحْكَمُ والْمُتَشَابهُ]
قال الله تعالى }هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ...الآية{ [آل عمران/7]، فقد أخبرَ الله تعالى في هذه الآيةِ: أنَّ في القرآنِ الكريمِ آياتٍ مُحْكَماتٍ هُنَّ أُمُّ الكتابِ، بمعنَى: هُنَّ أَصْلُ الكتابِ، وأنَّ فيه آياتٍ مُتَشابهاتٍ، يَتَّبِعُهَا الذين في قلوبهم زَيغٌ.
وأخبرَ الله تعالى في هذه الآيةِ: أنَّه لا يعلمُ تفسيرَ الآياتِ المتشابهاتِ إلا الله والراسخونَ في العلمِ.
نعم! المسلمونَ اليومَ طوائفُ مُختلفةٌ، وكُلُّ طائفةٍ تقول: قال الله تعالى، وقال الله تعالى، و…إلخ.
وحينئذٍ فالواجبُ على المسلمِ أنَّ يَعْلَمَ أنَّ في القرآنِ المُحْكَمَ والمتشابِهَ، فلا يغترّ بقولهم: قال الله، قال الله، فلعلهم يَستدلونَ بالمتشابِهِ الذي لا يَعلمُ تأويلَهُ إلاَّ الله والراسخونَ في العلمِ.(1/38)


وحينئذٍ فيجبُ على المسلمِ: أنْ يَتَعَرَّفَ على الراسخين في العلمِ، ويبحثَ عنهم، ويأخذَ تفسيرَ آياتِ الله منهم، وقد قدَّمْنَا بعضَ الأدلةِ على أنَّ الراسخين في العلمِ هم: آلُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ دون غيرهم من طوائف المسلمين، ولو لَم يكنْ مِن الأدلةِ على ما قلنا إلاَّ آيةُ التطهيرِ، وهي قوله تعالى }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا{ [الأحزاب/33]، لكفى في ثبوت ما قلنا، كيف؟! وقد جاء بِمَا يشهدُ لهم بِمَا قلنا ما ضاقتْ عنه الأسفارُ، لكثرته عند أهلِ السنةِ وغيرهم، وكفى بهذه الشهادةِ لهم مِن الله تعالى.
نعم! فمن أصولِ الدينِ العظيمةِ: العلمُ بأنَّ أهلَ البيتِ: هم أهلُ الحقِّ، وأنَّهم الراسخون في العلم، وأنَّهم المفسرون للقرآنِ، وأنَّ مَنْ خالفهم فقد وَقَعَ في الضلالِ، والزيغِ والهَلَكَةِ، وإنْ تَمَظْهَرَ بالصلاحِ والصلاةِ والزهدِ والورعِ والعبادةِ وترتيلِ القرآنِ.
وذلك أنَّ مَن خالفهم فقد خالفَ الحقَّ الذي نَزَلَ به جبريلُ من السماءِ على مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وخالفَ النبيَّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، وخالفَ رَبَّ العالمين، وأنَّ مَنْ أطاعَهُم ودَانَ بدينهم فقد دان بالحقِّ، وأطاعَ الله ورسولَهُ.(1/39)


نعم! لَمَّا نََزَل قولُ الله تعالى }إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا{ [الأحزاب/33]، جَمَعَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ علياً وفاطمةَ والحسنَ والحسينَ، وَلَفَّ عليهم كساءاً، ثُمَّ قال ((اللهم هؤلاءِ أهلُ بيتي، فأَذْهِبْ عنهم الرِّجْسَ، وطَهِّرْهُم تَطهيرا))، هكذا رواهُ أهلُ الحديثِ من أهلِ السنةِ وغيرهم، منهم مسلمٌ في صحيحه ذكر ذلك ابنُ كثيرٍ في تفسيرهِ عند تفسير هذه الآية من سورةِ الأحزابِ.
[تفسير آيات قد تشتبه معانيها]
}لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ{ [التكوير/28-29] المعنى: أنَّ الله تعالى قد شاءَ للإنسانِ أنْ يَخْتارَ أحَدَ الطريقينِ: طريقَ الهدايةِ، أو طريقَ الضلالةِ، ورغَّبَهُ في طريقِ الهدايةِ غايةَ الترغيبِ، وحَذَّرَهُ من طريقِ الضلالةِ غايةَ التحذيرِ.
فعلى هذا مشيئة البشرِ ليستْ مشيئةً مستقلةً عن مشيئةِ الله تعالى، فقد شاءَ الله للمكلفِ أنْ يَختارَ أيَّ الطريقين.
وقولُهُ تعالى }يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء{ [فاطر/8].(1/40)

8 / 10
ع
En
A+
A-