[عدل حكيم]
معنى ذلك: أن الله تعالى لا يفعل القبيح، وكل أفعاله صادرة عن حكمة، وكلها أيضاً حسنة لا يوجد فيها قبيح.
والدليل على أنه تعالى كذلك من جهة العقل: أن الفعل القبيح لا يقع إلاَّ لواحد من أمرين، أو كليهما:
1-الجهل بقبح الفعل.
2- الحاجة إلى ذلك الفعل القبيح.
وهذان الأمران منتفيان عن الله تعالى، فإنه تعالى عالم بجميع القبائح }لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ{ [الحاقة/18]، وغنيٌّ عن فعلها، وقد قدمنا الدليل على غناهُ، ونفيِّ الحاجة عنه تعالى، وهو عالِمٌ أيضاً بأنه غني عنها، وكلُّ من كان كذلك فإنه لا يقع منه فعل القبيح.
هذا وقد أجمعت كلُّ طوائف المسلمين على أن الله تعالى عدل حكيم }لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا{ [النساء/40].
غير أن بعض هذه الطوائف نَقَضَتْ هذا الأصل المجمع عليه فقالت: إن كل فاحشة يفعلها العباد من كفر وفسوق وعصيان وكذب وباطل وزور كل ذلك من فعل الله، وأن الله تعالى هو الذي خلق ذلك وفعله وأراده وشاءه وقدَّرَهُ وقضاه، فنسبوا كلَّ ذلك إلى العدل الحكيم، واتهموه بفعله و...إلخ
ثم قالوا: إن الله تعالى سيعذب العباد على ذلك، فنفوا بقولهم هذا عن الله تعالى العدل والحكمة، ونسبوه إلى فعل الظلم والقبائح والكذب و…إلخ، فعطَّلوا العدل والحكمة عن معانيها، وأكفؤا الإناءَ بما فيه، فلم يتركوا للعدل والحكمة عين ولا أثر، ولَم يَبْقَ لهم من ذلك سوى تنزيه الله تعالى بالحروف والألفاظ، فنزهوه تعالى بنفي الظاء واللام والميم، وأثبتوا له تعالى العين والدال واللام و..إلخ(1/16)


فمذهَبُهُم هذا مذهبٌ مُخَالفٌ للعدلِ والحكمةِ تماماً، إذ كيف يأمر الله تعالى بما قد خَلَقَهُ، أو ينهى عن ما قد خلقه، وأيُّ فائدةٍ في إرسالِ الرسلِ، وإنزالِ الكتبِ.
ومما يدل على بطلان مذهبهم:
أنَّ الإنسان يَلْحَقُهُ حُكْم فعله من المدح والثناء والذم والاستهزاء والثواب والجزاء.
وأنَّ الإنسان يحصل منه الفعل على حسب إرادته.
فكلُّ هذا يدلُ على أن الفعل من الإنسان لا من الواحد الرحمن.
وأن الله تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم فقال: }يكسبون{، }يمكرون{، }يفعلون{، }يصنعون{، }يكفرون{، }وتخلقون إفكاً{، ونحو ذلك في القرآن كثير.
فالحقُّ الذي تؤيده فِطَرُ العقولِ، وتشهد له الحكمةُ والعدلُ، وتنادي بصحته آياتُ القرآن: أنَّ الإنسان هو الذي يفعل الطاعة أو المعصية باختياره وإرادته ومشيئته، وأن المكلف قادرٌ على فعل ذلك وعلى تركه، وأن الله تعالى منزه عن فعل معاصي العباد فلم يَخْلُقْها ولم يشأْها ولم يردها، وأن العصاة فعلوا العصيان من قِبَلِ أنفسهم وباختيارهم وإرادتهم، وأن الله تعالى قد هداهم النجدين، ومَكَّنَهُم في الحالين، لَم يَمْنَعْهُم عن المعاصي جَبْرَاً، ولَم يُدْخلْهُم في الطاعات قَهْراً، وأنَّه لو شاء ذلك لفعله كما قال تعالى: }وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا{ [يونس/99]، يريد به تعالى مشيئة الإجبار، إذ لو أكرههم لبطلَ التكليفُ.(1/17)


{ولا تزر وازرة وزر أخرى}
المعنى في ذلك: أنَّ الله تعالى لا يُعذبُ أحداً إلا بذنبه، ولا يعاقبه بذنب غيره، والدليل على ذلك من جهة العقل: أنَّ عقابَ مَنْ لا ذنبَ له ظلمٌ، وكذلك عقابُهُ بذنب غيره، والظلمُ قبيحٌ، وهو تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم، وقد قال تعالى: }إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا{ [النساء/40]، وقال: }وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ{ [الزخرف/76] وقال تعالى: }وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى{ [الأعراف/164]، إلى غير ذلك.
{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}
من مقتضى العدل والحكمة أن الله تعالى لا يُكَلَّفُ أحداً إلا ما يطيقُ، وذلك أن تكليفَ ما لا يطاق قبيحٌ، وهو تعالى لا يفعل القبيح كما قدمنا، وقد قال تعالى: }لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا{ [البقرة/286]، والوسعُ: دون الطاقة، وقال: }لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا{ [الطلاق/7]، وقال تعالى: }يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة/185].(1/18)


{والله يقضي بالحق}
تدل هذه الآية أن الله لا يقضي بالباطل والكفر والفساد، ومن هنا فلا يجوز القول بأن المعاصي بقضاء الله تعالى ويراد بذلك أنه خلقها أو أمر بها أو أرادها أو شاءها، وقد يراد بالقضاء العلم فيقال: إن المعاصي بقضاء الله أي أنه تعالى عالم بها، وقد قال تعالى: }وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ{ [غافر/20]، وقال تعالى:}وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ{ [غافر/31]، وقال:}وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ{ [الزمر/7]، }وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ{ [البقرة/205]، فكلُّ ذلك يدلُ على أن الله تعالى لا يُريدُ شيئاً من القبائحِ، ولا يحبه ولا يرضاه ولا يشاؤه، وقد تقدم الدليل الدالُ على أن الله تعالى لا يفعلُ القبيحَ، وإرادةُ القبيحِ قبيحةٌ.
{يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}
من مُقْتَضَى الحكمةِ: أنَّ الله تعالى لا يفعلُ لعباده ولا يُكَلِّفُهُم إلا بِما يَدعوهم إلى الفلاحِ، ويُكْسِبُهُم الصلاحَ سواء كان ذلك محنةً أو نعمةً أو تكليفاً، وذلك لأنَّه تعالى حكيمٌ، والحكيمُ لا يَفعلُ إلاَّ ما هو صوابٌ ومصلحةٌ، فكلُّ ما نرى مِنْ الأمراضِ والمِحَنِ والخوفِ والأمنِ والفقر ِوالغنى والخصبِ والجدْبِ و...إلخ.
أمَّا النِّعَمُ: فوجهُ الحكمةِ فيها ظاهرٌمَكْشوفٌ.(1/19)


وأمَّا الْمِحَنُ: ففيها موعظةٌ وذكرى واعتبارٌ، وتماماً كما قال الله تعالى: }ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{ [الأعراف/168] }فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ{ [الأنعام/43] }أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ{ [التوبة/126]، وهذا بالإضافةِ إلى ما أَعَدَّ الله للصابرين، وقد يكونُ بعضُ المصائبِ عقاباً، كما قال الله في سورة سبأ وقصتهم }ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلاَّ الْكَفُورَ{ [سبأ/17].
[{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} صلى الله عليه وآله وسلم]
الدليل على نبوة محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: أنَّه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين ادَّعَى النبوةَ أرْدَفَ دعواهُ بالبرهانِ القاهرِ، وهو القرآن، فقد تحداهم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين كَذَّبوا دعواهُ بأنْ يأتوا بِمثلِهِ، أو بعشرِ سورٍ مِنْ مِثْلِهِ، ثم بأنَّ يأتوا بسورةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فعرفنَا حينَ لَمْ يأتوا بشيءٍ من ذلك مع شدةِ عداوتِهِم لهُ، وحرصِهِم الكبيرِ على إبطالِ دعوتِهِ أنَّه نبيٌّ صادقٌ، وأنَّ القرآنَ مِنْ كلامِ الله تعالى.(1/20)

4 / 10
ع
En
A+
A-