فإذا ثبت أنَّ الله تعالى ليس جسماً، وانتفت صفاتُ الأجسامِ جميعُهَا تَبَعَاً لنفيِّ الجسميةِ، فليس تعالى في مكانٍ، ولا يُدْرَكُ بالحواس، ولا يَتَصِفُ تعالى بالحركةِ والسكونِ، والاجتماعِ والافتراقِ، والرطوبةِ واليبوسةِ، والطولِ والعَرْضِ، ولا بالألوان، ولا بالمشي والهرولةِ، والصعودِ والنزولِ، ولا بأيِّ كيفيةٍ، لأنَّ ذلك كُلَّهُ مِنْ صفاتِ الأجسامِ الضَّعَيفةِ المُحْدَثَةِ، وكذلك فلا يتصفُ بالوجْهِ والجنبِ واليدينِ والساقِ والعينينِ، ليس في مكان _ تعالىسبحانه أنْ يكونَ في السماء، أو في الأرض _، ولا تَحدُهُ الفَوقِيَّةُ والتَّحْتيةُ، ولا اليمينُ والشمالُ، والخلفُ والأَمَامُ.
كان الله سبحانه ولا شيء، لا مكان ولا زمان، ولا سماء ولا أرض، ولا عرش ولا كرسي، وهو خالقُ المكانِ، مُسْتَغنٍ عن المكانِ، وخالقُ الزمانِ، فلم يَتَقَدمْهُ زمانٌ.
ليس بنورٍ ولا ظلامٍ، لا تجوزُ عليه الغَفْلَةُ والنُّومُ والنِّسْيَانُ، ولا يَجوزُ أنْ يُقالَ إنَّهُ تعالى يَفرحُ ويَسْتَرُّ، أو يَلْحَقهُ الهمُّ والغَمُّ، أو يتألَمُ أو يَلْتَذُّ، أو يَشتهي أو يَنفرُ، إذ أنَّ كلَّ ذلك من صفاتِ الأجسامِ الضعيفةِ المُحْدَثَةِ، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم، فوجب أن نَنْفِيَ عنه تعالى كُلَّ صفاتِ الأجسامِ على الإطلاقِ.(1/6)
هذا والأمرُ الذي يدور عليه رحى التوحيدِ هو: نفي التشبيه عن الله تعالى على الإطلاق، وصدق أمير المؤمنين عليه السلام: (التوحيدُ أن لا تتوهمه)، وقال تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ{ [الشورى/11]، وقال تعالى }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ [الإخلاص/4].
[آيات متشابهات]
قوله تعالى}بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ{ [المائدة/64] تفسيرها في الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: }يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء{ [المائدة/64] وقد جاءت هذه الآية جواباً على اليهود حين قالوا: }يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ{ [المائدة/64] بمعنى أنه بخيل، فردّ الله عليهم بالآية السابقة، وقوله تعالى: }تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا{ [القمر/14] معناه تجري في حراستنا وحفظنا وقوله تعالى: }يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ{ [الزمر/56] معناه في طاعة الله، وقوله تعالى }فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ{ [البقرة/115]، أي الجهة التي وجهكم إليها، وقوله تعالى: }تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ{ [المائدة/116]، أي تعلم سِرِّي وغَيْبِي، ولا أَعْلَمُ سرَّكَ وغيبكَ، وقوله تعالى: }مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا{ [يس/71]، أي قدرتنا، وقوله تعالى: }اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ{ [الأعراف/54]، بِمعنى استولى على الملك بالقدرة والسلطان.
وفي القرآنِ كثيرٌ من الآياتِ المتشابِهَةِ التي لا يَعْلَمُ تأَويلَها إلاَّ الله والراسخون في العلم من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ.(1/7)
[التصديق والتصور]
نعم! العلمُ يَنقسمُ إلى قسمين: علمٌ تصديقيٌّ، وعلمٌ تصوريٌّ، والذي كَلَّفَ الله تعالى به عبادَهُ هو: الإيمانُ به، والإيمان به هو التصديق به.
أمَّا التَّفَكرُ في الله تعالى وتَصُّورُهُ فلا يَجوزُ ذلك، وذلك لأنَّ عقولَ البشرِ، وإنِ اجتهدتْ في التفكيرِ لا تستطيعُ أنْ تَتصورَ إلاَّ المخلوقاتِ، بل إنها لا تستطيعُ أنْ تتصورَ من المخلوقاتِ إلاَّ ما قد عَرَفَتْهُ، وإليكَ بعضَ الأمثلةِ:
لو أنَّ رجلاً لَمْ يَطْعَمِ الحالي ولَمْ يَذُقْهُ، فإنه لا يستطيعُ أنْ يتصورَ الحلاوةَ، وإنْ بالغتَ في شرحها له وتوضيحها، وكذلك الأعمى الذي ولد أعمى لا يستطيعُ أنْ يَتصورَ الألوانَ ولا النورَ والظلامَ، وكذلك أنتَ أيُّها البصيرُ لا تَستطيعُ أنْ تَتصورَ لوناً غير ما عَرَفْتَه من الألوانٍ.
وبناءاً على هذا فإن الفِكْرَ إذا ذَهَبَ يَتصورُ الخالقَ ـ جل وعلا ـ فإنه بلا شكٍّ ولا ريبٍ سَيُشَبِّهُهُ بالمخلوقاتِ التي أَلِفَهَا وعَرَفَها، ولا يستطيعُ أنْ يَتجاوزَها بتفكيره، فلأجلِ هذا يَحْرُمُ على العاقلِ أنْ يُفَكِّرَ في الخالقِ أو يَتصورَهُ، ويؤيدُ هذا الدليلَ العقليَّ الذي ذكرنا.
[أدلة الكتاب والسنة]
أمَّا الكتابُ فقولُهُ تعالى: }وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا{ [طه/110]، ومن السنة قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ((تفكروا في المخلوق، ولا تتفكروا في الخالق))، وقول الوصي ـ عليه السلام ـ: (التوحيد أن لا تتوهمه).(1/8)
[وفاق وخلاف]
اتفق المسلمون جميعهم أهل السنة جميعاً، والشيعة جميعاً على:
أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه لا يشبه المخلوقات، وأنها لا تشبهه.
ثم قال بعضهم: إن له وجهاً ويدين وجنباً وقدمين وأصابع، وأنه يَضحكُ ويفرح ويغضب، ويقوم ويقعد، ويَمشي ويهرول، ويطلع وينزل، فأثبتوا لله تعالى كلَّ ذلك وشَبَّهُوه بمقولتهم هذه، ثم حاولوا الهروب من التشبيه الذي وقعوا فيه، فقالوا: إن له وجهاً يليق بجلاله، ويدين تليقان بجلاله، وعينين تليقان بجلاله و..إلخ.
وتارةً يقولون: إن له وجهاً بلا كيف و..إلخ.
وينزلُ بلا كيف، ويطلعُ بلا كيف، ويقعدُ بلا كيف، ويَمشي بلا كيف، ويُهَرْوِلُ بلا كيف، و.. إلخ.
وكلُّ ذلك لا يُخرجُهُم من دائرة المشبهين، فقولهم: إنَّ له تعالى وجهاً يليق بجلاله، ويدين تليقان بجلاله مِمَّا يؤكدُ التشبيهَ، ويُحَقِّقُ التجسيمَ، فإن الحيواناتِ كذلك، فَلِلْجَمَلِ يدان تليقانِ به، وللإنسان يدان تليقان به، ولِلذَّرَةِ يدان تليقانِ بها و…الخ، فلا تليقُ يدا الإنسان لِلْجَمَلِ ولا للحمار ولا للذَّرَة والنَّمْلَةِ، ولا يدا بعضِ الحيواناتِ للبعض الآخر، وقولُهُم له وجهٌ بلا كيف و…إلخ، ويُرى يومَ القيامة بلا كيف، ويَجْلِسُ على العرش بلا كيف، ويَمشي وينزل ويصعد ويهرول ويضحك ويتكلم بلا كيف، قولُهُم هذا لا يُمْكِنُ العقلُ أنْ يُصَدِّقَ به لاستحالته.
وتوضيح ذلك: أن اليد إذا كانت موجودة وحقيقة كما يقولون فلا بد أن تتصف بصفةٍ وكيفيةٍ، فلا بد أن تكونَ طويلةً أو قصيرةً أو بين ذلك، أو صغيرةً أو كبيرةً، أو متحركةً أو ساكنةً، أو رطبةً أو قاسيةً و...إلخ، ولا يمكن نفيُّ تلك الكيفياتِ عنها.(1/9)
وكذلك لا يُمْكِنُ أنْ نُصَدِّقَ أنَّ الله تعالى ينزل ويصعد ويهرول ويجلس من غير أن يكون هناك حركة وسكون، وكذلك لا يمكن أن يُرى في الآخرة من غير أن يكون متحركاً أو ساكناً، ومن غير أن يكون في الأَمام أو الفوق أو…إلخ.
{وربك الغني ذو الرحمة}
مِمَّا يَجبُ معرفتُهُ: التصديقُ والإيمانُ بأنَّ الله تعالى غنيٌّ لا تَجوزُ عليه الحاجة، والذي يدل على ذلك من جهة العقل: أنه قد ثبت بما تقدم أن الله تعالى ليس بجسم، وبناءاً على ذلك فيجب نفي صفات الأجسام وخصائصها عنه تعالى، ومن ذلك السرور والفرح، والهم والغم، واللذة والألم، والشهوة والنفرة، والزيادة والنقصان، والخوف والأمن، وهذه الخصائص هي دواعي الحاجة والفقر، فإذا كانت منتفية عن الله تعالى انتفى تبعاً لانتفائها عنه تعالى الفقر والحاجة، فإنه تعالى إذا انتفى عنه التلذذ فإنه ينتفي عنه تبعاً لذلك الحاجة إلى كل أنواع الملاذ، وكذلك إذا انتفت عنه تعالى الشهوة انتفى عنه الحاجة إلى كل أنواع المشتهيات، وإذا كان سبحانه وتعالى لا يَلْحَقُهُ الهمُّ والغَمُّ انتفى عنه تبارك وتعالى الحاجةُ إلى كلِّ ما يدفع ذلك وهكذا…
وقد قال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ{ [فاطر/15]، وقال: }وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ{ [آل عمران97]، وقال: }إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ{ [إبراهيم/8]، وغير ذلك كثير.(1/10)