الكتاب : المركب النفيس إلى التنزيه والتقديس
المؤلف : السيد العلامة محمد بن عبد الله عوض المؤيدي حفظه الله تعالى

كتاب المركب النفيس
إلى التنزيه والتقديس
تأليف
السيد العلامة محمد بن عبد الله عوض المؤيدي حفظه الله تعالى

[مقدمة]

الحمد لله خالقِ الخلقَ، ومُدَّبِرِ الأمْر، العليم القدير الحي القديم، الذي ليس كمثله شي وهو السميع البصير، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطاهرين، حجج الله على خلقه، وشهدائه على عباده، الذين من اتبعهم نجا، ومن خالفهم ضل وغوى، أما بعد:
فهذا مختصرٌ لطيفٌ في معرفة الله تعالى وما يلحق بذلك من أصول الدين، محتوٍ على الغالب مِن ما في كتاب العقد الثمين وعلى زيادات هامة أيضاً، ينبغي معرفتها.
هذا ولَم آتِ بشيءٍ جديد، بل كل ما ذكرته فيه مستوحىً عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، والجديد هنا هو السهولة في التعبير بحيث لا يحتاج المبتدئ إلى كثير في فَهمه، وتنبغي قراءته للمبتدئين قبل العقد الثمين أو بعده، والحمد لله رب العالمين، الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على محمد وآله.

[أول الطريق إلى العلم بالله]
العقلُ من طبيعته التفكيرُ، وله القُدْرَةُ وحده على معرفة الله تعالى، وما يستحقه من القداسة والكمال والجلال، غير أنَّ الله سبحانه وتعالى قد عَزَّزَ العقلَ بالرسلِ والكتبِ، فهداهم وأرشدهم إلى طرق التفكير الصحيح الذي سيوصلهم حتماً إلى معرفة الله تعالى، فمن ذلك قوله تعالى }أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ{ [الطور/35].
هنا يخاطب الله العقلاء:
هل خُلِقُوا مِنْ غير شيءٍ؟ هل هم الخالقون لأنفسهم؟(1/1)


ولا شك أنَّ العقلاء جميعاً لا يقبلون واحداً من هذين الافتراضين، ولا يَحتاجون في تفسيرهما إلى تفكيرٍ، بل يردون ذلك ببداهة عقولهم من غير تَرددٍ ولا تفكيرٍ ولا نَّظَرٍ، وحينئذٍ لَمْ يَبْقَ أَمامَ العقلِ إلاَّ أنْ يُصَدِّقَ ويؤمن بأن له خالقاً خلقه وسَوَّاه، وشقَّ سمعه وبصره...الخ
وهكذا كلما يجده العاقل من المُحْدَثات، فإن العقل يفترض ثلاثة تساؤلات في تفكيره لا غير:
هل حدثت هذه الأشياء من غير شيء؟
هل أحدثت هذه الأشياء أنفسها؟
أم أحدثها مُحْدِثٌ؟
ولا يجدُ العقلُ افتراضاً آخرَ يَفْتَرِضُهُ، بل يُحَتِّمُ عليه تفكيرُهُ أنْ يَختارَ واحداً من هذه الثلاثة التقادير، و الافتراض الأخير وهو أنه أحدث هذه المُحْدَثات مُحْدِثٌ هو الذي يقبله العقل، ويطمئن إليه.
[المرحلة الثانية من التفكير]
بعد التصديق بأن هذه المُحْدَثَات قد أحدثها مُحْدِثٌ، فإن العقل حتماً ينتقل بتفكيره إلى الخالق الذي أحدثها فيؤمن ويُصَدِّقُ بأنه:
موجودٌ، لأنه لا يقبل العقل بخالق معدوم.
حيٌّ، لأن الفعل لا يصدر من ميت بالضرورة.
قادرٌ، وذلك لأن الفعل لا يصدر من عاجز.
عالِمٌ، وذلك أنَّ الفعلَ المُحْكَمَ المُشْتَمِلَ على غاية الإحكام والإتقان لا يصح ضرورةً من جاهل.(1/2)


فكلُّ هذه الصفاتِ يؤمنُ بها العقلُ، ويُصَدِّقُ بها، ولا يَحتاجُ العقلُ في الإيمان بها إلى تكريرِ النَّظَرِ، بل يَكْفِي النَّظَرُ الأَولُ، فتحصلُ هذه الصفات الأربع بالتَّبَعِ للنظرِ الأولِ، فإذا عرفَ العقلُ أنَّه لا بد لهذا المُحْدَثِ من فاعلٍ عَرَفَ أنَّ هذا الفاعلَ مُتَصِفٌ بهذه الصفاتِ الأربعِ ضرورةً.
} وهو بكل شي عليم {
إتقانُ المخلوقاتِ وتقديرُها على ما تَقْتَضيه الحِكْمَةُ والمصلحةُ وتقديرُ الأرزاقِ للحيوانات، وحِفْظُهُ لها وهدايتُهُ لها إلى مصالحها، كُلُّ ذلك يدل على إحاطة علم الخالق بكلِّ شيء، وكذلك فإنَّك تَرى إتقانَ الخلقِ وإبداعِهِ في كلِّ ورقهٍ، وفي كلِّ زهرةٍ، وفي كلِّ شَجرةٍ، وفي كلِّ ثَمَرةٍ، وفي خَلْقِ كلِّ دابةٍ، في النَّحْلَةِ والنَّمْلَةِ وإلى آخرِ ما خَلَقَ الله تعالى، كُلُّ ذلك يدلُّ على إحاطةِ علم الله تعالى بكل شيءٍ، وقد قال تعالى: }مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا{ [المجادلة/7]، وقال تعالى: }وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ{ [الأنعام/59].
} هو الأول والآخر{
والله ـ سبحانه وتعالى ـ قَدِيمٌ لا أولَ لوجوده، ولا آخِرَ لوجوده.(1/3)


والدليلُ على أنَّ الله تعالى لا أولَ لوجوده هو: أنه لو كان لوجوده أولٌ لوَجَبَ أنْ يَكونَ مُحْدَثاً مَخْلوقاً، فيحتاجُ حينئذٍ إلى خالقٍ خَلَقَهُ، ومُحْدِثٍ أحدثَهُ، وهكذا إلى ما لا نهاية، وللعقل في هذه المسألة إفتراضان لا غير:
إمَّا أنْ يَكونَ الخالقُ قديماً.
وإمَّا أنْ يَكونَ مُحْدَثاً.
وقد بَطَلَ بالدليل العقليِّ الذي قدمنا أنْ يكونَ الخالقُ مُحْدَثاً، فوجب أنْ يكونَ قديماً، وعلى هذا فيجبُ التصديقُ والإيمانُ بأنَّ الخالقَ تعالى قديمٌ لا أولَ لوجوده.
} وهو السميع البصير{
يَجبُ الإيمانُ بأنَّ الله تعالى سميعٌ بصيرٌ، ومعنى ذلك: أنه تعالى لا يَخْفَى عليه شيءٌ مِنَ المسموعات ولا من المرئيات، فهو سبحانه يَسْمَعُ كُلَّ شيءٍ مِمَّا يُسمَعُ، ويَرى كُلَّ شيءٍ مِمَّا يُرى، لا تَخْفَى عليه خافيةٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، وقد قال تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ [الشورى/11]، ويَجبُ أنْ نَعْرِفَ هنا أنَّ رؤيةَ الله وسَمْعَهُ للأشياءِ ليس بآلةِ سَمْعٍ وآلةِ بَصَرٍ كما في الحيواناتِ، فليس له تعالى عينان يُبْصِرُ بهما، ولا أُذنان يَسْمَعُ بهما، وليس له قلبٌ وعقلٌ يُفَكِرُ بهما - تعالى سبحانه عن ذلك - }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ [الشورى/11].

} ليس كمثله شيء {
أولاً: المخلوقاتُ الموجودةُ هي أجسامٌ، وهذه الأجسامُ لها صفاتٌ وهيئاتٌ، وهذه الصفاتُ والهيئاتُ اسمها أعراضٌ، فالأعراضُ إذن هي توابعٌ للأجسام، وليست شيئاً مستقلاً، والجسم ثلاثة أنواع:(1/4)


حيوان، ونبات، وجماد، وكُلُّ هذه الثلاثة الأنواع: طبيعتُهُ الضَّعْفُ والتَّحَولُ، فالحيوان يتحولُّ إلى جمادٍ لا حياةَ به، ثم إلى ترابٍ، وكذلك الجمادُ يتحولُّ من حالةٍ إلى حالة أخرى، فالحديد وهو أقوى الجمادات وأصلبها قد يُحَوِّلُهُ الصدأُ إلى ترابٍ، والحجار قد تحول إلى تراب وإلى نُورَةٍ، والنباتُ كذلك، وتماماً كما وصفه الله تعالى }ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا{ [الحديد/20].
ثانياً: الأنواع الثلاثة التي قدمنا ذكرهاكلها مُحْدَثَةٌ، أما النبات والحيوانات فبالمشاهدة والضرورة، وأما الجمادات فأثرُ التَّقْديرِ فيها يدلُّ على أن ثَمَّ مُقَدِّر قَدَّرَها، وجاعل جعلها على تلك الكيفياتِ والتشكيلات، وإذا كانت كذلك فهي مُحْدَثَةٌ لوجود دلائل الحدوث فيها.
هذا وبناءاً على ما قدمنا فلا يَجوزُ أنْ نُشَّبِهَ الله تعالى بشيءٍ من المخلوقات، وذلك أنَّهُ لو أشْبَهَ شيئاً منها لَكَانَ ضعيفاً مُعَرَّضَاً للتحولِّ، ومُعَرَّضَاً للآفاتِ والتبددِ والزوالِ، ولَكَانَ مُحْدَثاً، وقد ثبت أنَّه تعالى خالقُ الأجسامِ، وعليه فيلزمُ أن لا يكون جسماً، ولأنَّ الشيء لا يَخْلُقُ مثلَهُ.(1/5)

1 / 10
ع
En
A+
A-