إن من زعم أن الله تبارك وتعالى بعث نبياً من أنبيائه إلى أُمَّة من خلقه بجميع ما تحتاج إليه تلك الأُمَّة من علم حلال وحرام، وفرائض وأحكام في نوازل تنزل عليه، ونوازل تنزل بعده فعلم ذلك النبي حكم الله في جميع تلك النوازل التي تكون بعده فلم يستودع ذلك الشيء تلك الوديعة التي استودعه الله إيَّاها مَنْ يقوم من بعده لآخر أُمَّته؛ إذ كان رسولاً إليهم مبلغاً عن الله، مسئولاً عن بلاغهم، حتى لا يكون على ذلك النبي حُجَّة لله، ولا لتلك الأُمَّة عليه إنكار فيما أدى عن الله عَزَّ وَجَلَّ إليهم؛ لأعظم طعناً على الله وعلى رسوله ممَّن طعن على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وجميع المهاجرين والأنصار؛ لأنه يقول تبارك وتعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف/6] .
فعن مَاذا يسأل الأُمَّة إذا لم يبلغها الرسول شيئاً؟، وما حُجَّة الرسول على الأُمَّة بترك البلاغ؟!.
[الله تعالى قد أنزل على رسوله (ص) علم ما تحتاج إليه الأُمَّة]
فإن زعموا أن الله تبارك وتعالى لم ينزل على نبيِّه علم ما يحتاج إليه الخلق ولم يعلم ذلك رسوله، لقد نسبوا الله ورسوله إلى الجهل العظيم الذي لا تقم به السموات والأرضون؛ إذ زعموا أنهم علموا ما لم يعلَمَا.(1/41)
وإن زعموا أن الله قد أنزل على رسوله علم ما يحتاج إليه أهل عصره ممَّا سألوه عنه لا غير ولم ينزل عليه حكم النوازل التي تكون من بعده في غير عصره فكان لهؤلاء الأضداد الذين سموهم علماء أن يقولوا فيها برأيهم، وأن يشرِّعوا فيها أحكاماً من عند أنفسهم، فكان عليهم أن يقولوا فيها، وعليه تبارك وتعالى أن يرضى، لقد نسبوه إلى ضعف التدبير، وسُوْءِ التقدير؛ إذ كانوا - زعموا - قد علموا ما لم يعلم، وحكموا بما لم يحكم، وشرَّعوا بما لم يشرع، وأمروا بما لم يأمر، ونهوا عمَّا لم ينه عنه، كأنهم تجاهلوا قوله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}[الشورى/21] .
فقد أخبر تبارك وتعالى أنه قد أكمل الدِّين فقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة/3] ، والحكم في النوازل من الدين، فزعموا أنهم لم يجدوا من النوازل في كتابه ولا سنة نبيه عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ حكماً منصوصاً، فأي كمال أكمل الدِّين في قولهم، وهو في كل وقت يحتاج إلى من يزيد فيه حكماً من عند نفسه في نازلة؟!.
فلو جهدت اليهود والنصارى والذين أشركوا على أن يطعنوا على الله وعلى رسوله ببعض ما طعنت به الخوارج ومن قال بمقالتهم ما قدروا على ذلك، ولا أحد يقدم على هذه الفضيحة العظيمة في الإسلام، فتعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً، فقد أتقن عَزَّ وَجَلَّ أمره، وأنفد حكمه، فما ترك لأحد منهم ولا من غيرهم من جميع الخلق مقالاً، وهو يقول:{وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}[الكهف/26] .(1/42)
الجواب في الصلاة
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف أحداً، ولم يوص إلى أحد؛ ولكنه أمر أبا بكر بالصلاة فاختاره - زعموا - لدينهم، واختاره المسلمون لدنياهم.
وزعموا أن الصلاة عمود الدِّين، فنظرنا فإذا الأشياء كلها الدين والدنيا لا ثالث لهما:
فأمَّا الدِّين: فالعمل للآخرة بما أمر الله به من أداء جميع الفرائض من الصلاة، والزكاة، والحَجّ، والصيام، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وأمَّا الدنيا: فمتاع الغرور كما سمى الله في كتابه:{لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت/64] ، فاختاره - زعمتم - رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لصنف من الدين للصلاة لا لغيرها.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: إن كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال: لا تزيدوا ولا تنقصوا؛ لأنه الرسول إليكم، والآمر لكم، لستم المرسلين إليه والآمرين له، واتركوا ما ترك.
فإن قالوا: فمن يولى الزكاة، والحَجّ، والصيام، والجهاد، والأحكام، وقَسْم الفيء والمواريث، وشرائع الدين كلها؟
فقل لهم: إن كان ولاَّه إياها مع الصلاة [فولُّوه]، وإن كان أمسك فأمسكوا، وليسعكم ما وسعه -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فإن قالوا: إن الصلاة عمود الدين، وسائر الأشياء تبع لها، والصلاة والزكاة مقرونتان في كتاب الله.(1/43)
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما الذي منع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يُصيِّر إليه مع الصلاة الزكاة وسائر الدين كما صيَّرتُم ذلك إليه، أعجز عن الكلام؟ أم لم يحسن (أن) يفعل كما فعلتم؟ أم قال لكم: الأمر في الصلاة [إليَّ]، وسائر الدِّين إليكم فقلدوا من شئتم أمركم؟
فإن قالوا: هذا لا يستقيم؛ من صيرت إليه الصلاة فهو الإمام؛ لأن الصلاة عمود الدين، وسائر الأشياء تبع لها، فمن ترك صلاة واحدة متعمداً فقد كفر بالله العظيم.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما حُجَّتهم على من خالفهم في الصلاة أنها ليست بعمود الدِّين، وقال: إن عمود الدِّين طاعة ولي الأمر ومودة ذوي القربى؛ لأن ولي الأمر هو الدليل على الدين؟
ولو لم يكن دليل لم يكن مدلول عليه؛ فطاعة ولي الأمر ومودة ذوي القربى مفروضتان على الخلق لا يسقطان، ولا يسقط فرضهما عن أحد من الخلق إلا بجحود الخلق لهما؛ لأن الدين لا يقوم إلا بهما، ونجد الصلاة، والزكاة، والصيام، والحَجّ، والجهاد قد وضعه الله عن بعض خلقه، ولم يضعه عن بعض، ونجد طاعة ولي الأمر ومودة ذوي القربى لم يضعهما الله عن أحد من خلقه.
[الدليل على عدم اعتبار الصلاة عموداً للدين]
فإن سألوك على ذلك دليلاً، فسلهم عن الصلاة التي زعموا أنها عمود الدين: أليس قد يؤخرها العبد عن وقتها عمداً وغير عمد، وتسقط عن المسافر منها ركعتان ما كان مسافراً أبداً، وعن المريض إذا كان لا يعقل ولم يدرِ كم فاته من صلاته لا قضاء عليه، وعن الحائض ما كانت في حيضها فقد سقط الفرض عنها فلا صلاة عليها؟(1/44)
ولا قضاء على المسافر؛ لأنه قد سقط عنه بعض الفرض؟
ولم تسقط طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن أحد من هؤلاء.
وتسقط عن الخائف من الصلاة ما وجب على الآمن؛ لأن صلاة الآمن أربع ركعات، وصلاة الخائف ركعتان يصلي الإمام وتقوم طائفة من خلفهم، فإذا سجدوا كانت الآخرة من ورائهم كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ.
[وصلاة] الخائف بخلاف صلاة المسايفة، صلاة المسايفة يسقط عنهم فيها القيام، والركوع، والسجود، والقعود؛ إنما هي تكبيرٌ وتهليل.
هذه الصلاة كلها قد وضعها الله عَزَّ وَجَلَّ عن أهلها ما كانوا على حالاتهم هذه.
ولم يضع الله عَزَّ وَجَلَّ طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن أحد من هؤلاء، ولا من غيرهم من الخلق كانوا على هذه الحالة، أو على غيرها.
والزكاة إنما فرضها الله عَزَّ وَجَلَّ على أهل المال، فمن لم يكن له مال فقد سقط عنه الفرض حتى يكون له مال.
ولم يضع الله عَزَّ وَجَلَّ طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن ذي مال، ولا غير ذي مال.
وكذلك الصوم وضعه الله عَزَّ وَجَلَّ عن جميع الخلق إلا في شهر واحد، في شهر رمضان، فمتى دخل الشهر سقط الفرض عن المسافر، والمريض، والحائض؛ حتى يعتدوا كلهم بأيام أخر.
ولم يضع الله عَزَّ وَجَلَّ طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن مسافر، ولا مريض، ولا حائض.
وكذلك الحَجّ وضعه الله عمَّن لم يستطع إليه سبيلاً، ولم يضع طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عنهم.(1/45)