ففي هذا بيان لمن فهم وعقل، وأنه لا بُدَّ للجيش من أمير ينفذه؛ لأنه لم يقل ((أنفذوا)) إلا لِمُنفِّذ يأمر بإنفاذ ما أُمِر به.
[في النهي عن الاختلاف، وبطلان حديث:((أصحابي كالنجوم))]
وقد زعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ترك الوصية التي افترض الله عليه، وترك إقامة ولي الأمر الذي أمر الله الخلق برد ما اختلفوا فيه إليه الذي يستنبط العلم من عنده.
وزعموا أنه ترك الأُمَّة حيارى يعمهون بلا دليل، لا يعلمون حلال نازلةٍ من حرامها من بعده حتى اضطرهم ذلك إلى إكذاب قوله الذي عقدت عليه قلوبهم، وأفصحت به ألسنتهم؛ إذ يقول تبارك وتعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام/38] ، وفيه تبيان لكل شيء.
فأقاموا أضداداً وأنداداً لله ولرسوله، يفزعون إليهم في هذا كله، على أنهم متفرقون بأقاويلهم، مستحسنون لآرائهم، مختلفون بأهوائهم، فصار هذا يُحل نازلة يُحرمها هذا، ويُحل هذا فرجاً يُحرمه هذا، ويُحل هذا دماً يُحرمه هذا، ويُحل هذا ما لا يُحرمه هذا [بلا كتاب] في ذلك نزل من الله عليهم، ولا أمر من رسول الله قصد به إليهم، وقد نهاهم الله -تبارك وتعالى- عن ذلك فقال:{وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل/116] كأبي حنيفة ، وابن أبي ليلى، وزفر، ومحمد بن الحسن، وجميع من قال برأيه.(1/36)


ثم رووا عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الروايات الزُّور، وأحاديث الفجور، بالمدخول عليهم فيها؛ لتقوم بذلك رياستهم؛ فزعموا أن رسول الله -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ- أمر بما نهى الله عنه، وذلك أن الله عَزَّ وَجَلَّ نهى عن الاختلاف.
وزعموا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر به؛ إذ قال - زعموا -: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
فزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أنه من أخذ برأي واحد منهم فقد أصاب وإن اختلفوا.
فإذا كان الأمر على هذا القول لا حق ولا باطل، إذا كان كذلك لم يُعرف المأمور به من المنهي عنه، ولا المعمول به من المتروك، فتركوا قول من أرادوا من أصحابه، وأخذوا بقول من أرادوا، وقالوا: هذا يُعمل به، وهذا لا يُعمل به. فصاروا هم الحُكَّام على من أُمِرُوا بالاقتداء به، وذلك أن أبا بكر وهو - زعموا عندهم - خير هذه الأُمَّة بعد نبيها، صَيَّر الجَدّ أباً، وصيَّره زيد أخاً، فأخذوا برأي زيد، وتركوا قول أبي بكر. وقد رووا أن النبي -عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ- قال:((أفرَضَكم زيد)) .
ومن ذلك أن عمر بن الخطاب - وهو أفضل الأُمَّة عندهم بعد أبي بكر - أمر برجم المرأة التي وضعت لستة أشهر فردهم عن ذلك علي بن أبي طالب - كَرَّمَ اللهُ وَجَهَهُ - فكان من قول عمر:((لولا علي لهلك عمر)) ، وأخذوا بقول علي، وتركوا قول عمر.(1/37)


وقد رووا عن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:((بين عيني عمر ملك يسدده)) ، فأخذوا بقول من أرادوا منهم، وتركوا قول من أرادوا.
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن لهم الانقياد إلى ما لم يجدوا في كتاب الله ولا في سنة رسوله إلى قول العلماء وإن اختلفوا، وللحكام أن يختاروا من أقاويلهم ما أحبوا.
فإذاً أصحاب محمَّد صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ عندهم أعلم من الله ومن رسوله بما تحتاج إليه الأُمَّة من حلالها وحرامها؛ لأنهم - فيما زعموا - لم يجدوا في كتاب الله ولا في سنة رسوله علم ما تحتاج إليه الأُمَّة، وإذاً الحكام عندهم الذي يقولون برأيهم أعلم عندهم من أصحاب محمَّد لاختيارهم أقاويل أصحاب الرأي، وكذبوا قول الله تبارك وتعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام/38] ، وقوله: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[النحل:89].(1/38)


وزعموا أنه فَرَّط ولم يُبِيِّن، ولو بَيَّن لوجدوه، تعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً، فلقد بَيَّن وأوضح، ودلّ وأمر باتباع الذي دلّ عليه، ولقد وبخهم بذلك إذ أمرهم أن يردوا علم ما لم يجدوا إلى ولي الأمر الراسخ في العلم الذي يعلم تأويل القرآن وتنزيله، وناسخه ومنسوخه، وحلاله وحرامه، ومحكمه ومتشابهه، الذي قال فيه:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا}[المائدة/44] ، ثم استثنى بعد النبيئين فقال: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ}[المائدة/44] ؛ فأخبر تبارك وتعالى أن المستحفظين لكتاب الله هم الذين يحكمون بكتاب الله وبما في التوراة، على أن التوراة أعجمية أنزلت لغيرنا على غير نبينا، فكيف لا يعلم نبينا المستحفظ لكتابنا على حكم ما أنزل عليه لنا؟(1/39)


فلو نَظَرَت الخوارج ومن قال بمقالتهم، وفَكَّرَت مَنْ كان المستحفظ لكتاب الله بعد رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ومن الذي جمعه وألفه، وادعى علم تأويله، ومعرفة ناسخه ومنسوخه، وحلاله وحرامه، ومحكمه ومتشابهه، فقصدوا قصده؛ لم يعدموا علم نازلة تنزل بهم، ولا بأحد من الخلق إلا وجدوا علمها عند ذلك المستحفظ، ولم يقصدوا من لم يحفظ كتاب الله ولم يقرأه، ومن طلب الشهود عليه بعد وفاة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لمن يجمعه، فمن جاء بآية يشهد عليها شاهدان أنها من كتاب الله أثبتها، وإن لم يأت عليها شاهدان لم يقبلها، ولعل فيما لم يقبل من الله حكماً من الله لبعض النوازل التي زعموا أنهم لم يجدوا حكمها في كتاب الله.
[الموقف من الصحابة]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن الشيعة طعنت على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وجميع المهاجرين والأنصار.
فلعمري؛ إن مَن طَعَن على الله في تدبيره، وعلى رسوله في تقصيره، في بلاغ رسالات ربِّه، وبين من طعن على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وجميع المهاجرين والأنصار، وجميع الخلق أجمعين؛ بَوْناً بعيداً.(1/40)

8 / 42
ع
En
A+
A-