فعلمنا أن من صرف هذه الصفة عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من الحكمة، وحُسن الصفة، والقيام بما أولاه الله من أمر خلقه، ووصفه بغير ذلك؛ فزعم أنه أهمل الناس وتركهم يثب بعضهم على بعض، ويظلم بعضهم بعضاً؛ أنه قد أظهر المحادة لله، والعداوة له ولرسوله، والإزراء عليه، وأضاف الذم إليه، ونفى المدح عنه، وأنه إنما قصد الله بسوءِ الثناء، وسوءِ التدبير، ووصف غيره بحسن الثناء، وحسن التدبير، فتعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً.
[الكلام على زعم الخوارج أن رسول الله (ص) مضى وعنده علم ما تحتاج إليه الأمة]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يوصِ إلى أحد، ومضى وعنده علم ما تحتاج إليه الأُمَّة من حلالها وحرامها، ومعرفة مواريثها وصدقاتها، وطلاقها، وقسم فِيِّها، وشرائع حجّها، وعلم أحكامها في النوازل التي نزلت من بعده فيها، وعلم ناسخ القرآن ومنسوخه، والمعمول به من ذلك من محكمه ومتشابهه ، وتنزيله وتأويله ؛ أحوج ما كانوا إلى قائم يقوم فيهم من بعده يفزعون إليه في هذا كله حتى لا يكون في دين الله اختلاف، ولا شبهة تخاف، لذمّه تبارك وتعالى الاختلاف ونهيه عنه؛ إذ يقول:{وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ}[آل عمران/3] .
وقال:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام/159] .(1/31)


وقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[النساء/59] ؛ فأخبر تبارك وتعالى أنه لن يؤمن بالله واليوم الآخر من لم يرد ما لم يجد في كتاب الله إلى الله وإلى رسوله، ولم يتكلف ما لم يفترض عليه ولم يؤمر به.
ثم قال تبارك وتعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء/83] ؛ فأخبر تبارك وتعالى أن للأمر وليًّا يُسْتنبط [العلم] من عنده يدل عليه نبيه، فإن لم يكن ذلك فما معنى قوله تبارك وتعالى إذ يأمر برد الحكم إلى حاكم لا يوجد، وإلى ولي [أمر لا يُعْرف] ولا يدل عليه رسوله، تعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً، مع أنه تبارك وتعالى قد أمر بطاعة هذا الولي فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء/59] ، فزعموا أنه لم يخبر بأسمائهم، ولم يدل عليهم رسوله.(1/32)


فإن قالوا: إنما أمر بطاعة قوم مخصوصين وهم أمراء السرايا، وهذا مثل قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[الجمعة/9] ، ومثل قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ}[النساء/59، الأنفال/20، محمَّد/33] ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة/95] ، هذا كله بمنزلة واحدة، فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ}[النساء/59، الأنفال/20، محمَّد/33] ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ}[الجمعة/9] ، و{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}[المائدة/95] خاص غير عام، أمّا الجُمعة فسقطت صلاتها عمَّن لم تجب عليه، وحل الصيد لمن لم يُحَرَّم عليه في الحَرَم، وكذلك سقطت طاعة أمراء السرايا عمَّن لم يفرض عليه.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: إن كانت أمراء السرايا هم ولاة الأمر وقد سقطت طاعتهم حيث ماتوا فقد إذاً سقطت طاعة الرسول -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حيث مات، ومتى سقطت طاعة الرسول سقطت طاعة الله، ومتى سقطت طاعة الله سقط الاستعباد عن الخلق، ووقع التهارج بينهم، وسقط الأمر والنهي؛ لأن طاعة ولي الأمر مقرونة بطاعة الرسول، وطاعة الرسول مقرونة بطاعة الله.(1/33)


ووجه آخر: أجبهم على أن ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم هم أمراء السرايا، فإن كان كذلك فقد سقط الأمر والنهي، والطاعة لله ولرسوله، ولأمراء السرايا؛ إلا على أهل السرايا لأمرائهم فإن طاعتهم عليهم معقودة مفروضة، ولا خلاف بين الأُمَّة أن الأبتر بن الأبتر شانئ رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عمرو بن العاص من أُمراءِ السرايا، وأن أبا بكر وعمر كانا جميعاً في سريته التي عقد له رسول الله عليها إلى ذات السلاسل يأمرهما فيأتمران، ويقصرهما فيقتصران، وما اختلفا فيه من شيءٍ فعليهما رده إلى وليِّ أمرهما، المفروض طاعته عليهما؛ لأنه يقول تبارك وتعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}[النساء/83] فذلك عليهما واجب لم يسقط عنهما ولم يَزل فلم يُوَلَّيا عليه إلا من بعد رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فإن قالوا: إنما ولاَّه رسول الله عليهما لأنه أبصر بالحروب منهما لا أنه أفضل وأعلم منهما.
فقل لهم: فكيف أمرهما الله -تبارك وتعالى- أن يردا ما اختلفا فيه إلى من هما أعلم وأفضل منه؟
فإذا كانا أفضل وأعلم منه فماذا الذي يردان إليه غير العلم إلا الجهل لأن ضد العلم هو الجهل.
وسَلهم عن الحرب التي زعموا أنه أبصر منهما: هي من دين الله أم من غير دين الله؟
فإن قالوا: بلى؛ هي من دين الله.(1/34)


فقل لهم: نعم؛ فعمرو إِذاً أبصر وأعلم بدين الله منهما وأفضل، ولولا ذلك لما ولاَّه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عليهما؛ لأنه لا اختلاف بين الأُمَّة أن الأمير أفضل من المأمور.
فإن قالوا: إن الحرب (إنها) ليست من دين الله. فقد طعنوا على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ إذ زعموا أنه أمر بغير دين الله.
فإن قالوا: فإن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قد فسخ طاعة عمرو عن أبي بكر وعمر.
فقل لهم: لم نناظركم في فسخ الطاعة أنها إذا زعمتم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر أبا بكر بالصلاة ثم وَجَد - زعمتم - إفاقة فخرج يتهادى بين يدي علي بن أبي طالب والفضل بن العبّاس، فلما سمع أبو بكر نحنحة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- اعتزل عن المحراب وتقدم النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فإذا كان ذلك كذلك فقد فسخ صلاة أبي بكر التي ادعيتم له الإمامة بها، إنما نحن في فرض طاعة عمرو بن العاص عليهما؛ إذ زعمتم أن الطاعة التي أمر الله بها المؤمنين لولاة الأمر أنهم أمراء السرايا.
فإن زعمتم أنه فسخ طاعة عمرو فمن فسخ طاعة أسامة بن زيد عنهما إذ ولاَّه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- جيشاً في ذلك الجيش أبو بكر وعمر، وأمرهما بالخروج معه وهو في سكرات الموت!، وكان آخر قوله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((أنفذوا جيش أسامة)) .(1/35)

7 / 42
ع
En
A+
A-