فإن زعموا أنه مضى ولم يستودع تلك الوديعة أحداً وحاشاه -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ - فقد [أعظمت الفرية على الله خاصَّة]؛ إذ زعموا أنه بعث نبياً إلى أُمَّةٍ بجميع ما تحتاج تلك الأُمَّة إليه، فلو علم اللهُ أن رسوله لا يبلغ ما أرسله به، وإن أقروا أنه قد استودع ما استودعه الله عَزَّ وَجَلَّ من يقوم به من بعده فالأُمَّة أولى وأحق بالعصيان لله بكتمان البلاغ، وإضاعة الوديعة من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنَّا نرى الله -تبارك وتعالى- أنزل نبيه صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ من عباده بمنزلة الوالد البر الحَدِبِ، الشفيق، الرؤوف الرحيم بأمر ولده، المدبر لشأنهم، العارف لأمورهم، العالم بمصلحتهم، وإنما يخاف عليهم فساده من بعده بما قلده الله من أمر عباده، فلم يكن ليدع حُسنَ النظر في هذا الوجه الذي ينسب من تركه إلى الجهل وسُوءِ التدبير وقبح الصفة.(1/26)


ووجدنا فيما أنزل عليه ووصفه دليلاً على ما وصفنا وذكرنا حين يقول تبارك وتعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة/128-129] ؛ فعلمنا أن من حُسن صفاته ونظره لمن بقي من بعده من أُمَّته عند وفاته أن ينصب لهم من يقوم مقامه، ويخلفه في أُمَّته بأحسن الخلافة، ويكون بمثل صفته في جميع حالاته من المدح في حسن الثناء، وأداء الأمانات لأهلها، والأخذ للحقوق، فمتى لم يقم الوالد لولده فيما ندب عارفاً بمصلحتهم وبما لبعضهم على بعض كان ذلك القائم يقمع الظالم، وينصف المظلوم.
فإن لم يكن كذلك كان الوالد منسوباً إلى العجز، وضعف الرأي، وقلة الحزم، وكذلك رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بتلك المنزلة فيما أقام صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ لأمته؛ لم يكن ليقيم أحداً إلا بأمر الله مُطَهَرًّا مَعصوماً.(1/27)


[توضيح عظم الإمامة وكبر قدرها]
وسأوضح لك من الإمامة وعظم شأن خطرها، وكبر قدرها، وعلوّ منزلتها، ما تتصاغر الأشياء عنها عند من فهم وعقل إن شاء الله، وذلك أن إبراهيم خليل الله -عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ- اتخذه الله خليلاً من قبل أن يتخذه نبياً، فلما رأى ما في الخُلَّة من الفضل عَظمت في عينه، ثم اتخذه نبياً من قبل أن يتخذه رسولاً؛ فكانت النبوة أعظم عند الله من الخلَّة، وكانت الرسالة أعظم عنده من النبوة، فلما أكمل الله له الخلَّة والنبوة والرسالة قال الله -تبارك وتعالى-:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا}[البقرة/124] .(1/28)


فعلم إبراهيم أنه لا شيء أفضل من الإمامة؛ لأن الإمام يُقتدى ويُهتدى به، على أنه لا يوحى إليه، فما فعل من شيءٍ جاز ذلك الشيء؛ لأنه لا يعمل إلا بأمر الله وهديه، فعند ذلك قال إبراهيم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ؛ إذ قال الله له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، قال إبراهيم:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، قال:{لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة:124] أي أن الإمامة عهد الله، ولا ينال عهد الله ظالم، والظالم المشرك بالله؛ لأن الله يقول:{لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان/13] ، فلا ينال عهده من أشرك به، وحَجَّ لغيره، وعَبَد الأصنام، واستقسم بالأزلام، وكذلك النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، وكذلك الأنبياء علَيْهِمُ الْسَّلاَمُ مطهَّرون معصومون بالهداية من الله، والتأديب، لم يجز عليهم شرك، ولم يحجّوا لغير الله، ولا استقسموا بالأزلام، ولم يعبدوا الأصنام، وكذلك الأئمة بمنزلتهم، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم؛ إلا أنه لا يوحى إليهم.
[شروط الإمام الواجب طاعته وموالاته]
ولن يكون الإمام إماماً حتى تكون فيه ست خصال؛ أولها: أن يكون أولهم إيماناً. وأعلمهم بحكم الله وبما أنزل الله على نبيه، ويكون أشجعهم قلباً، وأسخاهم كفاً، وأقدمهم هجرة، وأمسهم برسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- رحماً، وأجمعهم لعلم رسول الله عَلَيْهِ آلَهِ الْسَّلامُ.(1/29)


فأمَّا ما ذكرنا من قدم الإيمان: فإن الله سبحانه فضل السابقين سابقاً فسابقاً لقوله:{[وَ]السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}[الواقعة/10-11] .
وأمَّا العِلم بحكم الله: فإنه إن لم يكن عالماً لم يُؤمَن عليه أن يحكم بغير ما أنزل الله، ووجبت عليه الأسماء الثلاثة التي ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه من الكفر، والظلم، والفسق، لقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ}[المائدة/44] ، و{الظَّالِمُونَ}[المائدة/45]، و{الْفَاسِقُونَ}[المائدة/47].
[وأمَّا الشجاعة]: فإنه إن لم يكن شجاعاً انهزم من عدوّه، ومتى انهزم من عدوه باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير.
وأمَّا السخاء: فإنه إن لم يكن سخياً غلَّ واتخذ مال الله خولاً، ومتى فعل ذلك وجب عليه من الله شديد العقاب.
وأمَّا قِدَم الهجرة: فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا}[الأنفال/72] .(1/30)

6 / 42
ع
En
A+
A-