* * * * * * * * * * * * * * * * * *
الجواب في إثبات الوصية من الله تبارك وتعالى وافتراضه إيَّاها على الخلق
* * * * * * * * * * * * * * * *
وعلى الله أتوكل، وإيَّاه أسأل التوفيق
(أمَّا بعد):
فإن الله تبارك وتعالى خلق خلقه بلا حاجة منه إليهم، فلم يخلقهم عبثاً، ولم يتركهم سداً، فغذاهم برزقه، ودعاهم إلى طاعته؛ ليعلم مطيعهم من عاصيهم، ووعدهم على طاعته ثوابه، وعلى معصيته عقابه، وهو من قبل خَلْقهم بهم عليم، وبما إليه يصيرون بصير حكيم، فبعث فيهم رسلاً منهم مبشرين ومنذرين بأمر متقن، وقول مبين، فشرَّع لهم شرائع، وحدّ لهم حدوداً، وأنزل فيهم أحكاماً، فأمر ألا تغير شرائعه، ولا تُتعَدى حدوده، ولا تُبدَّل أحكامه، ثم ختم بنبيه الأمين الهادي المهدي، الرؤوف الرَّحيم محمَّد -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ- مصدِّقاً لِما كان من الرسل قبله، ومتخذاً على أُمَّتِه من بعده حُجَّةً أهله، وهي سنة الله في الأولين أمضاها في الآخرين، حكم عدل، وقول فصلٌ، ليس بهزلٍ، وذلك قوله [تعالى]:{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}[الإسراء/77] .
وقال:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ [الْكَافِرُونَ]}[غافر/85] .(1/21)


وقال:{شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}[الشورى/13] ؛فأمر تبارك وتعالى بإقامة دينه وشرائعه فقال:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [الماائدة/44] ، و{الظَّالِمُونَ} [الماائدة/45]، و{الْفَاسِقُونَ}[الماائدة/47]، فكانت أنبياء الله ورسله علَيْهِمُ الْسَّلاَمُ أمناءه على وحيه، وحُجَّته على خلقه، وشهداءه بإبلاغ رسالته، مستحفظين لكتابه، مستَودَعين على أسراره، مستودِعِين ما استُودعوا، أوصياء مرضيين، أمناء منتجبين، حُججاً له على أممهم من بعدهم، فكان النبي يوصي إلى الوصي بعد وفاته بعلم ما تحتاج إليه أمته بعد انقضاء أجله، لئلا يُدْرَس الدين، ولا تبدل أحكام ربِّ العالمين، فيجيء ذلك الوصي ما أوصى به إليه ذلك النبي يسير بسيرته، ويهدي بهديه، ولولا ذلك لدُرِسَت الأعلام، ولبُدِّلَت الأحكام، ولا عُرف الحلال من الحرام، حتى إذا أفضت النبوة إلى خاتم النبيئين، والحُجَّة على الخلق أجمعين، والشاهد عليهم يوم الدين [محمَّد] -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- دعا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، صابراً على الأذى، محتملاً للبلاء، مخالفاً في الله الأقرباء، دعا عشيرته الأقربين، وأعم بالدعوة جميع الخلق أجمعين، فكان أول من أجابه وصدقه أخوه المرتضى، وابن عمه المهتدي علي بن أبي طالب(1/22)


-صَلَوَاتُ اللهِ عَلِيْهِ-، المواسي له بنفسه، الضارب دونه بسيفه، [الممتحن بالنوم على فراشِه، يقيه الحتوف بنفسه]، وكان ذلك أخص الخلق به، وأكثرهم عنده منزلة، يفضي إليه بسرِّه، ويشركه دون الخلق في جميع أمره؛ حتى إذا دنا حِمَامه، وانقضت أيامه، بعد كمال الدِّين، والنصيحة لربِّ العالمين، قصد بالوصية؛ فَصَّدَ دليله؛ ليوضِّح لأمَّته من بعده منهاج سبيله، أقام أخاه عَلَماً لأُمَّتِه، واستودعه ما استودعه الله من علمه وحكمته، متبعاً بذلك سنن النبيين الذين خلوا من قبله لقول الله تبارك وتعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ}[الأنعام/90] ؛ فاقتدى بهدي إبراهيم ويعقوب وجميع النبيين في الوصية لقوله:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[البقرة/132] .
وقال:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ}[النساء/131] .
وقال تبارك وتعالى فرضاً على عباده:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة/180-181] .(1/23)


وقال:{شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}[المائدة/106] .
وقال عَزَّ وَجَلَّ في وصية المواريث:{يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}[النساء/11] .
وقال:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء/12] .
وقال فيما افترض على النساء:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء/12] .
فلما أنزل الله -تبارك وتعالى- الوصية في غير آيه، وافترضها على عباده، وأمرهم بها، كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أحقّ الخلق وأولاهم بأن يأخذ بما افترض الله عليه، وأن يفضي بما قلده الله وأسند إليه، من يقوم مقامه فيهم؛ وهو قول الله تبارك وتعالى:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[القصص/51] يعني وصيًّا بعد نبي، ونبيًّا بعد وصي، فجرت الوصية من النبيين إلى الوصيين إلى يوم القيامة.
[الكلام على زعم الخوارج أن رسول الله (ص) لم يوص إلى أحد]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يوص إلى أحد، ولم يستخلف أحداً، وأنه ترك ذلك حُسن نظر منه لأُمَّتِه لأَن لا يوصي بهم إلى رجل، أو يستخلفه عليهم فيعصونه فيكفروا [به].
فقل للخوارج: لو الفضل في ذلك، أو كان ذلك أصلح للأُمَّة، لكان ترك بعث الله عَزَّ وَجَلَّ للأنبياء والرسل إلى الأمم أصلح وأفضل لأن لا يعصوهم فيكفروا.(1/24)


وسلهم عن رجلين عالمين فاضلين كانت عندهما للناس ودائع وحقوق ومعرفة لبعضهم على بعض، والمواريث والصدقات وغير ذلك، فحضرتهما الوفاة، وأمسك أحدهما عن الوصية ولم يؤد إليهم ودائعهم، ولم يدفع إليهم حقوقهم، ولم يُعلِمهم مواضعها فيقصدوا قصدها، فبقوا حيارى، ومضى ذلك الرجل لسبيله، فوثب القوم على خزائنه، وادعى كل رجل منهم ما ليس له، ووثب بعضهم على بعض، واضطهد بعضهم بعضاً، وأخذ بعضهم حق بعض.
أهذا في ترك وصيته وإعلام الناس بحقوقهم، وأداء ودائعهم إليهم أولى بحسن النظر لنفسه؛ ولمن خَلَّفَ من بعده؛ وأحرى عند الله بالنجاة يوم القيامة؟!.
أم رجل حضرته الوفاة فذكر يوم معاده، فنظر فيما بينه وبين ربِّه وعباده، وأحب الخلاص ممَّا في عنقه، وقصد إلى نظيره في ورعه، وعلمه، وزهده، فأوصى إليه فيما له وعليه من الذي ما عنده من الحقوق، والودائع، والأمانات؟!.
فإن قالوا: فإن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يكن عليه حق لأحد، ولم يُخلِّف مالاً، ولم يستودعه أحدٌ وديعة.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: فأي مال أكبر، أو حق أوجب، أو وديعة أضمن من وديعة الله إيَّاه جميع ما تحتاج إليه أُمَّته من حلالها وحرامها؛ إذ كان رسولاً إلى آخر أُمَّته كما هو رسول إلى أولها، فأوجب عليه لآخرها ما أوجب عليه لأولها، وأنزل عليه من الحكم للآخر ما أنزل عليه من الحكم للأول؟(1/25)

5 / 42
ع
En
A+
A-