ولو كان الأمر على ما قالت الخوارج أنه في زيد، لم يكن رسول الله ليحابي عليّاً عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بالولاء دون العباس؛ لأن العمَّ عند الخوارج - وعند من قال بمقالتهم - أولى من ابن العمِّ بالميراث، وأجمعوا في فرائضهم على رجل هلك وترك ابنته وعمه وابن عمه من عمٍّ آخر أن للبنت النصف، وللعمِّ النصف، وليس لابن العمِّ من عمٍّ آخر شيء.
فقل لهم: ما بالهم ورَّثُوا أعمامهم من بني إخوانهم من آبائهم، ومنعوا فاطمة ميراثها من أبيها صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، والعباس ميراثه من ابن أخيه، ووثبوا على حيطانه فدك وغيرها في المدينة واحتجبوها لأنفسهم؟!.
فإن قالوا: إن الأنبياء لا يورثون، واحتجوا بأن النبيّ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال:((إنا معشر الأنبياء لا نورث)).
وقال:((ما تركناه صدقة)).
فقل لهم: لمن قال هذا؟ أو إلى من أوصى بماله صدقة؟؛ لأنه لا تجوز صدقة إلا بولي وشاهد.
[في نحل رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ابنته فاطمة فدك والعوالي]
وقد زعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ لم يُوْصِ إلى أحد.
فإن قالوا: إن وصيه أبو بكر والشاهدان على قوله:((ما تركناه صدقة)) عمر بن الخطاب، وأبي عبيدة بن الجراح.
فقل لهم: أمَّا الوصيَّة فلم يدعها أبو بكر، ولم يدعها أحد من الأُمَّة برواية مأثورة.(1/201)


وأمَّا شهادة عمر وأبو عبيدة فقد شهد عليٌّ، وابناه الحسن والحسين، وأم أيمن، في فدك بخلاف شهادة عمر، وأبي عبيدة، أنها لفاطمة نِحل من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
ولا خلاف بين الأُمَّة أن فدكاً من تركة رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؛ فلا تخلو أن تكونَ إحدى الشهادتين حقاً، والأخرى باطلاً، وأن يكون رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أشهد عمر وأبا عبيدة بخلاف ما أشهد به عليّاً، وفاطمة، والحسن، والحسين، وأم أيمن؛ فإن كان فعل - وحاشاه صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ - أن يُشهد قوماً بخلاف ما يُشهد به آخرين فيدعهم في التباس وشبهة يخرجون فيها إلى الخصومة.
فإن قالوا: فإن شهادة علي والحسن والحسين لا تجوز لأنهم يجرُّون إلى أنفسهم، وأم أيمن لا تجوز شهادتها وحدها لأنها امرأة.
فقل لهم: فأخبرونا عن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لو أشهده رجل من أُمته على وصيته وحده أكانت تجوز شهادته؟
فإن قالوا: لا. كفروا.
وإن قالوا: نعم؛ لأنه الشاهد على الخلق، والحاكم عليهم.
فقل: وكذلك عليٌّ الشاهد على الخلق، والحاكم عليهم؛ لأن عليّاً من رسول الله عليه وَآلِهِ السلام ورسول الله منه وذلك قول الله تبارك وتعالى:{[فَقُلْ] تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}[آل عمران/61] .
فدعا رسول الله [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-] من الأبناء الحسن والحسين، ومن النساء فاطمة الزهراء، ومن الأنفس علياً عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.(1/202)


فنفس رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لا تشهد بالزُّور، ولا تعمل بالخطأ، ولا يفضلها أحد من المخلوقين.
وقد قال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[الحجرات/1] ؛ فمن قدم على عليّ فقد قدم على رسول الله؛ إذ سماهما الله نفساً واحدة.
وقل لهم أيضاً: ما باله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ إن كان الأمر على ما قالوا أنه قال:((ما تركناه صدقة)) لم يعهد إلى فاطمة عَلَيْهَا الْسَّلاَمُ إذ لا تطلب ما ليس لها (وما هو) صدقة لغيرها!؟
وما باله أيضاً لم يعهد إلى علي بن أبي طالب، وإلى الحسن والحسين عليهم السلام، وإلى أم أيمن، أن لا يشهدوا لفاطمة عليها السلام بأن ما ترك صدقة إن كان أشهد عمر وأبا عبيدة دُون المهاجرين والأنصار؟!.
وأعظم من هذا كله: أنهم شهدوا على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بخلاف قول الله تبارك وتعالى؛ زعموا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((نحن معاشر الأنبياء لا نورث))، والله تعالى يقول:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}[النمل/16] .
وقال أيضاً في زكريا:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم/5-6] .
فإن قالوا: إنما ورث سلميان داود النبوَّة والعلم، وكذلك ورث يحيى بن زكريا النبوة والعلم.(1/203)


فقل: إن النبوَّة والعلم ليسا بدنانير، ولا بدراهم، ولا بدُوْر، ولا بحيطان، تُوْرَثُ وتقسم، وليست بأموالٍ اكتسبوها؛ إنما النبوَّة والعلم لله تبارك وتعالى، يصطفي الله بهما من يشاء من عباده؛ فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، ومن يحبو بنبوَّته، ومن يُؤتي حكمته، مع أن داود وسيلمان عليهما السلام قد كانا في عصر واحد نبيئَين، وعالمين حاكمين، وذلك قوله تبارك وتعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}[الأنبياء/78] الآية {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[الأنبياء/79] .
ثم قال:{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}[الأنبياء/79] ، فإذا كان سليمان قد آتاه الله النبوة والحكم والعلم في حياة داود فما الذي ورث من داود غير ماله؟!.
وأما القول في زكريا عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إذ يقول:{وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}[مريم/5-6] ، فوهب الله له يحيى.
فزعمت الخوارج: أن يحيى ورث نبوة زكريا وعلمه، وقد سأل زكريا ربَّه أن يرثه ويرث من آل يعقوب؛ فدعوة الأنبياء مُجَابَة.
وقد قال الله تعالى:{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}[الأنبياء/90] ؛ فما الذي ورث يحيى من آل يعقوب: أنبوتهم، أم غير نبوتهم؟!.
فقل لهم: كيف خاف زكريا الموالي من ورائه أن يرثوه النبوة والعلم، والنبوَّة والعلم ليسا في يده فيرثها مواليه وبنو عمه؛ إنما هما إلى الله يصطفي لهما من يشاء من عباده؟!.(1/204)


[ جوابات على بعض مسائل متفرقة]
وأمَّا ما احتجت به الخوارج من مخاطبة حوشب ذي ظليم لعلي بن أبي طالب وسؤاله إياه أن يمسك عن الحرب، ويُصَيِّرُ لهم الشام، ويُصَيِّرُوْنَ له العراق، وجواب عليٍّ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إياه بالكراهة لذلك دون القتال والطاعة، وذلك - زعموا - قبل صِفِّين بأيام، فلم يلبثوا إلا بضعة عشر يوماً حتى افترقوا عن سبعين ألف قتيل.
والحجة على الخوارج في ذلك من الوجهين جميعاً؛ إن كانوا قاتلوا مع علي بن أبي طالب على غير الحق، وقتلوا أصحاب معاوية بغياً وظلماً وعدواناً.
فقل لهم: ماذا أعدوا لله تعالى من الجواب إذا سألهم عن قتل من قتلوا ظلماً وعدواناً؟
وإن كانوا قاتلوا معه على حق فإلى أنفسهم أحسنوا؛ إذ أمرهم الله بأمره فأطاعوه والمنَّة لعليٍّ عليهم في ذلك، فما معنى احتجاجهم في حوشب ذي ظليم؟!.
وأما قولهم: إن الحجاج بن يوسف -لعنه الله- سأل الحسن بن أبي الحسن البصري فقال له: ما تقول في عليّ، وعثمان، وطلحة، والزبير، أيُّهم كان على الحق، وأيُّهم كان على الباطل؟
فقال الحسن له: أقول كما قال من هو خير مني لمن هو شر منك؛ قال فرعون لموسَى:{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}[طه/51] .
قال موسى:{قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى}[طه/52] .
فإن كان الحسن عند الخوارج قدوة فقد كان ينبغي لهم أن يقتدوا به وأن يمسكوا عن ذكر الشيعة ولا يكفروهم، وأن لاَ يقولوا فيهم الزور والبهتان.
ويمسكوا عن ذكر الخلافة، ولا يحتجوا لأبي بكر ، ولا لعمر، على علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.(1/205)

41 / 42
ع
En
A+
A-