فقد ينبغي للعاقل أن يكون له في نفسه شغل عن الناس، وذكرهم، وطلب عيُوبهم، يحاسب نفسه، ويحبس لسانه عمَّا لا يحل له، ولم يُكلَّف علمه ولا ذكره، فإن ذلك أسلم له، وأحصن لدينه؛ من تكلف ما لا يعنيه، والحق من ذلك المأخوذ به كلما أجمع عليه أهل القبلة من الحلال والحرام، والصلاة، والصيام، وجميع ما أمر الله به ونهى عنه، فإذا أخذوا بذلك كله لم يبق إلا المختلف فيه مِمَّا ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه ممَّا قال فيه العلماء بالرأي، والرأي شيءٌ مخوف، وليس على من قال بالرأي حرج حتى يتخذ رأيه ديناً يدين به ويدعو إليه، ويدعي على رأيه أنه أُمِر به، فإذا فعل ذلك ضل وكفر، وليس يجوز لأحد من الأُمَّة ما يجوز للنبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه [لو] قال لأحد فيما يسع جهله افعل كذا وكذا فلم يفعل ضل وكفر، وليس ذلك لغيره من الناس، وعلى الناس أن يُصلُّوا على الأنبياء والنبي خاصة -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ولا يجوز ذلك لغيره باسمه ولا شخصه، إنما يقال صلى الله عليه، ورحمة الله على فلان إعزازاً للأنبياء وتكرمة لهم عمَّن سواهم من الناس وتفضيلاً؛ لأن الإسلام أصله الشهادة والعلم واليقين أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمَّداً عبده ورسوله، ومعرفة الفناء والثواب والعقاب، وأن ما جاء من عند الله حق، وأداء الفرائض في أوقاتها، والكفّ عن الأمور التي لا يسعهم جهلها ولا يستقيم فعلها، وترك البحث والسؤال عمَّا لم يُكلَّف علمه ولم يؤمر به، والصلاة على محمَّد النبي وآله وسلم.(1/16)


* * * * * * * * * * * * * * * * * *
[مُقَدِّمَةُ الْكِتَاب]
[الجواب على الخوارج]
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
وبالله أستعين، وإيَّاه أسأل التوفيق والتسديد
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمَّد خاتم النبيين وسيِّد المرسلين، أمين ربِّ العالمين، وعلى أخيه، ووصيه سيد الوصيين، وعلى أهل بيته الطَّيِّبِين الأخيار، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ورحمة الله وبركاته على رغم الراغمين.
أكرمك الله بكرامة الأبرار، ووقانا وإيَّاك حرّ النار، وجعلنا وإيَّاك من المتقين الأخيار برحمته.
قد فَهِمْتُ - يرحمك الله - كتابَك، وما ذَكَرْتَ فيه من أمر النَّفر الذين في ناحيتك من الخوارج، وكتابهم إليك بالذي نقموا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، وإنكارهم وصية رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إليه، وزعموا أنه لم يَدَّع ذلك، وأنه لو كان وصياً لَمَا مُنِع الوصية، ولَما بايع أبا بكر؛ ولكنه - زعموا - بايع طائعاً غير مستكره.
وزعموا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف أحداً ولم يوص إلى أحد؛ ولكنه أمر أبا بكر بالصلاة، والصلاة - زعموا - عمود الدِّيْن، فلما اختاره رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لدينهم اختاره المسلمون لدنياهم.(1/17)


وزعموا أن الشيعة طعنت على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وجميع المهاجرين والأنصار، وفيهم سلمان الفارسي، وكان يقرأ التوراة والإنجيل والقرآن، وكان ينتظر خروج النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
ومنهم أبو ذر الغفاري الذي قال فيه النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق عند الله من أبي ذر)) .
ومنهم عمَّار بن ياسر الذي قال فيه النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((رُبَّ ذي طُمرين لا يُوْبَه له لو أقسم على الله لأبر قسمه)) يعني عمَّاراً.
ومنهم أبو عبيدة بن الجرَّاح الذي قال فيه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((أبو عبيدة أمين هذه الأُمَّة)).
وكفَّرُوا أبا بكر، وقد قال الله في كتابه في أبي بكر: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] ، وأمره رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالصلاة بالناس.
وأنه وعمر ضجيعي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قُبِرا في قبر واحد، وسَمَّى النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أبابكر: (الصديق)، وعمر : (الفاروق)، وقال:((اللَّهُمَّ أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)).
وزعموا أن الشيعة تقول إن علي بن أبي طالب يعلم الغيب، واحتجوا بأن العباس أولى برسول الله من علي لأن العم أولى بالميراث من ابن العم.(1/18)


وزعموا أن الصلاة لا تجوز على أحد من الخلق إلا على الأنبياء وما احتجوا به من الروايات عن الحسن بن أبي الحسن البصري، وعن الربيع بن خثيم، وعن الحَجَّاج بن يوسف من الأحاديث، وأشياء كثيرة ممَّا شَنَّعُوا به على الشيعة أنها تقول، وما سألتَ عن جوابهم على ما احتجوا به وادعوه بآيات من القرآن والأحاديث المجتمع عليها، ونحن مجيبوهم على ذلك إن شاء الله تعالى، وما توفيقي إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
لعَمْرِي؛ لقد علمت الخوارج ومن قال بمقالتهم لم يبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ- إلا على النصرة الواضحة، والأعلام المنيرة، والدلائل القويّة، التي بهرت العقول، مع ما نزل فيه من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ من الآيات المفسرات اللاتي لم تنزل في غيره، والأحاديث القويّة التي رووها عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالإجماع منهم ومن غيرهم عليها؛ فكانوا في عسكره يجاهدون دونه عدوه، ويشهدون أمره، ويقومون بحجته، ويثبتون له الوصية من رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، عارفين لحقِّه، معظمين لقدره له، ويقدمونه على جميع الأُمَّة، فكان ذلك فيهم مستودعاً في قلوبهم، مستقراً فيها، فلما أراد الله عَزَّ وَجَلَّ خذلانهم لِما عَلِم من سوءِ ضمائرهم سلبهم وديعته فكان مثلهم في ذلك كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ}[الأعراف/175] .(1/19)


وقوله:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل/13-14] .
وقال:{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين/14] .
وقد رسمنا لك في كتابنا هذا، وأوضحنا لك فيه من الحجج عليهم وعلى غيرهم من القرآن والروايات المجتمع عليها، ومن جهة المعقول وغيره ممَّا بعضه يجزي دون بعض لمن أحب الله أن يهديه، مع أنِّي لا أطمع لك في قبولهم منك؛ لأن الله تبارك وتعالى قد صرف الأمثال في كتابه فقال عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[الأنعام/111] .
وفقنا الله وإيَّاك لطاعته واجتناب معصيته، ولا سلبنا وإيَّاك ما أنعم به عليك وعلينا من معرفته برحمته.(1/20)

4 / 42
ع
En
A+
A-