هذا ما قويَ عليه - زعمتم - من شياطينه وأعوانه وجنده، وكيف لا تذكرون هذا الذي نال بمعصية الله على أنه نال هذا - زعمتم - منذ خلق الله آدم إلى يوم القيامة مما لا يحصيه إلا الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنكرتم البشير الذي ذكرناه عن وليّ من أولياء الله على أنه حجة الله على خلقه بما أفضَى بذلك العلم إليه رسول الله مع فضائله التي لم نذكرها في القرآن والرواية لكثرتها، وعجزنا عن إحصائها فتركناها خوف التطويل عن ذكر بعضها.
فإن قالوا: إن الله عَزَّ وَجَلَّ أعطى إبليس ذلك وقوَّاه عليه.
فقل لهم: فكذلك نقول أيضاً في عليّ إن الله عَزَّ وَجَلَّ أعطاه ذلك وقوَّاه عليه.
فإن قالوا: إن الله عَزَّ وَجَلَّ ابتَلى العباد بإبليس ونهاهم عن طاعته.
فقل لهم: وكذلك مَنَّ الله على العباد بعليٍّ [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ] وأمرهم بطاعته؛ فلم يكن الله تبارك وتعالى ليحتج على عباده بحجة فيقطع عنهم ما يحتاجون إليه في ليل ونهار وساعة من الساعات مع أنه تبارك وتعالى أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، (وأعلم العَالمين) بمصلحة الخلق أجمعين، فلم يكن ليعطي عدوه ما ليس له على خلقه من الحجج والمعجزات ما يضل به خلقه ويمنعه وليّه، وحجته على خلقه ما هو لهم منفعة، وحجة له عليهم.
أم كيف لا تنكرون ما هو دون إبليس في المعرفة من أخبار الغيوب التي لا تكون إلا مع نبي أو وصي نبي وتصدقونهم على ذلك؛ مثل أقاويل الكهنة وأصحاب النجوم الذين يخبرونهم بمواليد الخلق وسعيدهم وشقيهم، وما يصيب أحداً في بدنه.
وعن الغائب ومتى يقدم، ومتى يموت، ومتى تكون منيَّته.(1/186)
وعن الإمرأة وما في بطنها؛ أذكر هو أم أنثى، وكم تزوج من الرجال.
وعن الرجل كم يتزوج من النساء، وأسباب كثيرة لا تُحصَى.
فإن قالوا: هذه الأشياء لا نصدق بها؛ لأن الكهنة وأصحاب النجوم لا يعلمون الغيب.
فلعمري: إنهم كذلك، ويبطل من صَدَّقهم لقول الله عَزَّ وَجَلَّ:{قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل/65] .
فإن زعمت الخوارج: أن الكهنة وأصحاب النجوم إنما يتظننون ويتركنون، ويصيبون ويخطئون، بمنزلة الرؤيا يراها النائم فيأتي إلى المُعبِّر فيقصها عليه، فينظر المُعبِّر؛ فربما أصاب وربما أخطأ، ولا يُصدَّق إلا بما تأتي الأخبار القوَّية والروايات الصحيحة في الأنبياء المصطفين، والخلفاء الراشدين المهتدين.
[عمر يصيح: يا سارية الجبل الجبل]
فقل لهم: فإن كانت الروايات عندكم قويَّة والآيات صحيحة في الأنبياء المصطفين، والخلفاء الراشدين المهتدين فما حجتكم على من خالفكم في الروايات في عمر بن الخطاب حتى جاز ذلك له عندكم؛ إذ ليس بنبي ولا وصي نبي، فصدقتم قوله في ذلك؛ من ذلك أنه روي عنه أنه وجَّه جيشاً إلى نهاوند وأمّر عليه سارية، وبين نهاوند والمدينة مائة فرسخ، فزعموا أن عمر بن الخطاب صعد المنبر خطيباً فصاح: يا سارية: الجبل الجبل.
ثم استمر في خطبته. فلما نزل قال له المسلمون: يا أمير المؤمنين! سمعناك تقول في خطبتك: يا سارية: الجبل الجبل؟!.
قال: نعم؛ إني نظرت إلى سارية قد حظره المشركون فخفت عليه، فصحت به: الجبل الجبل .(1/187)
فانحاز إليه فسلم هو وأصحابه. فكيف صدقوا سارية أيضاً على هذا الخبر!؟
[عمر يكتب رسالة يخاطب بها نهر النيل؟!]
وما حجتهم على من خالفهم وأكذبهم فيما رووا: أن وفد مصر قدموا على عمر فشكوا إليه قلة النيل، فأمر بدواة وقرطاس فكتب إلى النيل: بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيْمِ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر.
أما بعد: إن كنت تجري بحولك وقوتك فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت تجري بحول الله وقوَّته فإذا أتاك كتابي هذا فاجْرِ على اسم الله وبركته.
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إليهم وأمرهم أن يطرحوه فيه، ففعلوا ذلك فأصبح النيل يطفح بالمدينة، ولو كان هذا حقاً لما استسقى بالعباس.
[على باب عمر ستر بغير و تد، ورحى تطحن بغير يد]
وما حجتهم على من خالفهم وأكذب رواياتهم: أن رجلاً سار إلى باب عمر فوجد عليه ستراً معلّقاً بغير وتد وإذا رحى تطحن بغير يد!!.
فمر ذلك الرجل برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فأخبره بذلك، فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((أما علمت أن الله أخدم عمرَ ملائكته؟!)).
وأشياء كثيرة يجري بعضها على قد شرحنا في كتابنا هذا بما سنوضحه بإقرار عمر على نفسه إنشاء الله تعالى.
[إنَّ هذا لفي كتاب الله؟!]
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: ما حجتهم على من خالفهم فقال: بأي فضيلة استوجب عمر بن الخطاب هذه العلامات والدلائل والعجائب مع روايته في نفسه وإقراره عليها ما روته الأُمَّة عنه؛ من ذلك قوله يوم توفي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال الناس: مات رسول الله.(1/188)
فقال عمر: لا والله! ما مات رسول الله؛ ولكنه أُرسِل كما أُرسِل موسى بن عمران فلبث في قومه أربعين يوماً، وإنِّي لأرجو أن يُقَطّع أيدي قوم وأرجلهم يقولون: إن رسول الله مات.
قال أبو بكر: يا أبا حفص؛ بَلَى قد مات رسول الله، أليس الله يقول في كتابه:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر/30] ؟
فقال عمر: إن هذا لفي كتاب الله؟!
قال أبو بكر: نعم.
فضرب عمر بدرته الأرض وقال: مات والله رسول الله.
[كلٌّ أفقه منك يا عمر!]
وقوله على المنبر: أَلاَ لاَ يَتزوجنَّ أحدٌ منكم على أكثر من أربعمائة درهم فأعاقبه على ذلك.
فقالت له امرأة من الناس: الله أعدل منك يا عمر؛ إذ يقول:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}[النساء/20] ؛ فالقنطار أكثر من أربعمائة.
فقال لنفسه: كلٌّ أفقه منك يا عمر.
[لولا عليٌّ لهلك عمر]
ومثل التي وضعت لستة أشهر فأراد رجمها فقال له علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:((إن عذرها في كتاب الله بيِّن)).
قال: وفي أي كتاب الله؟
قال: قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}[البقرة/233] ، وقوله:{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا}[الأحقاف/15] .
فقال عند ذلك: لولا علي لهلك عمر.(1/189)
[عمر يقول : إن رسول الله لم يبين الخلافة والكلالة والربا]
ومثل قوله: ثلاث لم يكن رسول الله بيّنها لنا؛ ولو بيّنها لنا لكانت أحب إليَّ من الدنيا وما فيها: الخلافة، والكلالة، والربا.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: قد رويتم في عمر أنتم ومن خالفكم من الجماعة فضائل وعلامات ودلالات لا تكون إلا في نبي أو وصي نبي، فقد أخبر عن نفسه بخلاف ما رويتم عنه، ولو رويتم في علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ومن خالفكم من الجماعة فضائل وعلامات، وقد أخبر علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن نفسه بخلاف ما أخبر عمر عن نفسه مِمَّا قد شرحنا في كتابنا هذا.
فما حجة الخوارج ومن قال بمقالتهم على من خالفهم فقال:
أيُّهما أولى عندكم بنيل مصر إن كان حقاً؛ أرجل يدعي أنه وصي رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ [وخليفته] لا يدفعه عن ذلك أحد، ولا يدعيه غيره.
روي عنه: أنه أتاه رجل أعرابي فقال له: يا أبا الحسن! أنت وصي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وخليفته؟
فقال: نعم.
فقال: فإن رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وعدني بمائتي ناقة حمُرًا عُشُرًا، فيها عبدان أسودان يستاقانها.
فنظر علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إلى بساط كان رسول الله يقعد عليه؛ فدعا الحسن والحسين فقال: اذهبا إلى وادي فلان وادي من أودية الجن؛ فناديا: إنَّا رسولا حبيب حبيب الله.
فأجابهما الوادي بالتلبية، وقال: صدقتما.
فقالا: إن جَدَّنا وعد فلاناً الأعرابي بمائتي ناقة حمراً عشراً فيها عبدان أسودان يستاقانها. فدفعاها إلى الأعرابي.(1/190)