وأما قولهم: إن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يعلم الغيب، واحتجوا بقول الله عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ}[الأعراف/188] .
ففهمت الخوارج هذه الآية وتأويلها على الطعن على محمَّد صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وتركوا ما أكرمه الله به -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من اطلاعه إيَّاه على غيبه إذ يقول تبارك وتعالى؛ إذ تفرَّد بالغيب واستثنائه نبيّه في كتابه الناطق على لسان نبيِّه الصادق:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا}[الجن/26] ، [ثم استثنى تبارك وتعالى فقال]:{إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}[الجن/27] .
فسل الخوارج: من هذا المستثنى في علم الغيب: أرسول الله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ؟ أم ذو الثدَيَّة؟.
وسلهم: من قال الله فيه:{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}[التكوير/20-21] من هذا المطاع الأمين الذي كانت تطيعه الشجر والوحوش والهوام ولا يعصيه شيءٌ ممَّا يدل الخلق عليه؟.
[بعض معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم]
من ذلك أنه قال للشجرتين حين أراد القعود بينهما:((أقبلا)) فأقبلتا تخطان الأرض خطاً حتى قعد بينهما، ثم قال:((ارجعا)) فرجعتا.
[1- قصة انشقاق القمر]
وقوله [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]للقمر:((هات نصفك))، فسقط نصف القمر في يده حين سأله المشركون ذلك.(1/161)


وفي رواية أخرى: أنه انشق في السماء نصفين ونزلت فيه السورة:{اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}[القمر/1] وذلك حين سأله المشركون في ذلك.
[2- قصة أهيان بن الأكوع مع الذئب]
وحديث أهيان بن الأكوع الرَّاعي إذ أتاه ذئبٌ فاحتمل شاة من غنمه، فقال أهيان: يا عجباه! ذئب احتمل شاة أكبر منه؟
فقال الذئب: أعجب والله من ذلك: أن محمَّداً رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ ببطن مَكَّة بين أظهركم يدعوكم إلى الله فلا تجيبونه.
فقال أهيان بن الأكوع: وأعجب من ذلك كله كلامه.
فكان بينهما كلام كثير إلى أن قال له أهيان: والله لو كنتُ أجد من يرعى لي غنمي ويضمنها لي لخرجت إليه.
فقال له الذئب: أنا أضمنها لك.
فضمنها إيَّاه وخرج أهيان، فلما رآه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مقبلاً قال:((هذا أخوكم أهيان كان من شأنه وشأن الذئب كذا وكذا، وقد استودع الذئب غنمه)) فأخبره بقصته، فقال له النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((ارجع إلى غنمك فإن الذئب يرعاها لك))، فرجع وقد أسلم.
وزعمت الخوارج: أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لا يعلم الغيب، فمن أعلم رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بهذا الغيب؟.
[3- قصة بعير يشكو صاحبه بين يدي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]
ويوم سار ببعير معقول فلما نظر إليه البعير خرَّ بين يديه فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((من صاحب هذا البعير؟))
فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله.(1/162)


فقال:((ما أعددت لخصومته؟ زعم أنك عقلته منذ اليوم لم تطعمه شيئاً، ولم تحله يطلب على نفسه؟)).
[4- قصة الذراع المسموم]
وقصة الذراع الذي وضع له المشركون فيه السّم، وكان يعجبه الذراع، فلما مد يده إليه أنطق الله الذراع فقال: يا رسول الله؛ لا تأكلني فإنِّي مسموم.
[5- الرسول يُعلم عمَّه العبّاس أن لديه مالاً أعطاه أم الفضل]
وقوله لعمِّه العبّاس ببدر يوم أُسِر؛ إذ طلب منه أن يفتدي نفسه، فقال: ليس عندي ما أفتدي به نفسي.
قال:(( بلى؛ من المال الذي أعطيته أم الفضل)).
فقال العباس: والله ما اطلع على ذلك غيري وغيرها. فأسلم العباس.
[6- المرأة اليهودية وبيعها سلمان الفارسي من رسول الله (ص)]
وحديث المرأة اليهودية التي كرهت أن تبيع سلمان الفارسي إلى رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إلا بأربعمائة نخلة موقرة مُطعمة، فأمر النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عليّاً أن يأتيه بأربعمائة نواة، فأتاه بها، فجعل رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يأخذ النواة فيبلها بريقه، ثم يغرسها في الأرض، ثم يأخذ الأخرى فلا يغرسها حتى تطِلع الأولى بقنوانها موقرة ما بين صفراء وحمراء، صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَرَحِمَ وَكَرَّمَ، حتى أتى على آخرها فدفعها إلى الإمرأة ثمناً لسلمان.(1/163)


[7- إخباره (ص) بما كان قبله وبما يكون بعده من الأعاجيب والفتن]
ومثل إخباره بما كان قبله من الأُمم الماضية، وبما يكون بعده من الأعاجيب والفتن التي قد شاهد الخلق بعضها ممَّا قد كان وممَّا سيكون، مثل قوله للزبير:((لتقاتلنه وأنت له ظالم-يعني عليًّا-)).
ـ ولعائشة:((لَتُقَاتِلِنه وأنت له ظالمة)).
ـ وبفتنة عثمان وقتله، وقتل الحسين عليه أفضل السلام.
ـ وظهور بني أُميَّة وملكهم رجلاً رجلاً، وكم يملك كل واحد منهم، وما يكون في زمانه، ومما تكون منيَّته.
ـ وبملوك بني العبَّاس رجلاً رجلاً، وبملك كل رجل منهم، وبما يكون في زمانه ، ومما تكون منيَّته.
ـ وبفتنة الدَّجَّال، وخروج السفياني، ومن يلحقهما، وفي أي وقت يخرجان.
ـ وكان يقول -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه:((سووا صفوفكم فإنِّي أراكم من خلفي كما أرى قبلتي أمامي)).
ـ وقوله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام:((من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي))، فكل زائر يزوره من الخلق بعد وفاته فهو يعرفه باسمه واسم أبيه، وفي أي بلد هو لا تنكر الأُمَّة هذا، وأنه يشهد له يوم القيامة.
ـ فإن أنكرت الخوارج ذلك فلم لم تنكر الحديث المشهور الذي نقلته الأُمَّة من أهل العلم: أن الله تبارك وتعالى أخذ مواثيق العباد فصيرها في الركن ليحتج به على الخلق يوم القيامة على أنه حجر لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينطق، فليس من أحد يطوف بالبيت إلا وهو يستلم الركن، أو يقوم بحذائه إن لم يقدر على استلامه فيشير إليه ويقول:(اللَّهُمَّ أمانتي أدّيتها، وميثاقي تعاهدته، ليشهد لي بالموافاة).(1/164)


ولا اختلاف بين الأُمّة أنه يؤتَى بالركن يوم القيامة فيُقعد على منبر من نور فينطق بلسان ذلق، فيشهد لجميع من وافاه من الخلق منذ أنزله الله عَزَّ وَجَلَّ إلى البيت إلى يوم القيامة، يعرّفهم بأسمائهم وأنسابهم، هذا على أنه حجر لا يسمع، ولا يبصر، ولا ينطق، ورسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ حُجَّة الله على خلقه، والشاهد على الأولين والآخرين يوم القيامة، يدل على ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}[النساء/41] .
وقوله:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب/45-56] ؛ فهو الشاهد على الخلق، والمطلّع على أعمالهم حيّاً وميِّتاً صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ، يدل على ذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ:{وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}[التوبة/105] هذا في الدنيا.
ثم قال:{وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[التوبة/105] هذا في الآخرة.
فإن قالوا: قد نرى الله قد استثنى مع رسوله على الإطلاع على أعمال العباد المؤمنين، فَمَن هؤلاء المؤمنون الذين استثناهم الله؟(1/165)

33 / 42
ع
En
A+
A-