وما حجتهم على من خالفهم من أهل الشام فقال: معاوية كان إماماً من جهة التراضي بين المسلمين لا من جهة الفرض من الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن تراضوا به كما تَرَاضَى أصحاب عليّ بعليّ؟
وما حجتهم على من خالفهم من أهل البصرة فقال: إن طلحة والزبير كانا إمامين من جهة التراضي بين المسلمين كما تراضَى أهل العراق [بعلي]، وكما تراضَى أهل الشام بمعاوية لعنه الله؟
فإذا كان الأمر على هذا سقط الفرض عن الخلق، ومتى سقط الفرض عن الخلق سقط الاستعباد، ووقع التهارج، ولم يكن لقول الله تبارك وتعالى معنى؛ لأنه أمر بمعدوم لا يوجد، وحاشاه تبارك وتعالى عن ذلك.
وما حَاجَةٌ إلى قوله، وما معنى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات/9] ؛ إذ أمر تبارك وتعالى مصلحاً يصلح بين فِئَتين من المؤمنين اقتتلتا فلم يدل الخلق على المصلح الذي من أطاعه أطاع الله، ومن عصاه عصا الله.
فإن زعموا أن معاوية وأصحابه هم الباغون، وأن الخوارج هم المبغي عليهم، فمن المأمور بالإصلاح؟
[الجواب على طعن الخوارج في تحكيم علي (ع) أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص]
وما لهم رَضوا ببعث أبي موسَى إذ بعثه علي وأصحابه من قبل التحكيم؟
ولم دخلوا في فِئَة علي وأقاموا في عسكره رضي الله عنه سامعين لأمره مقتصرين على رأيه، يُصَلُّون خلفه، ويقتدون به، حتى فرغ الحَكَمَان من حكومتهما؟ أفلا اعتزلوا قبل ذلك ثم نظروا في أمر معاوية وأمر علي إن كانوا - زعموا - أنهم المأمورون بالإصلاح والقتال؟(1/156)
فإن كان عليٌّ وأصحابه عندهم هم الباغون قاتلوهم مع معاوية، وإن كان معاوية وأصحابه هم الباغون قاتلوهم مع علي.
فإن قالوا: قد أخطأ وأخطأنا إذ حَكَّم كافرين في دين الله وفي دماء المسلمين: أبا موسَى الأشعري، وعمرو بن العاص، وأخرج الحكم من يده إليهما.
فقل لهم: إن كان من أنصف من نفسه فأخرج الحكم من يده إلى غيره وأمره أن يحكم بما أنزل الله فكان ذلك عندهم خلعاً لنفسه داخل في الكفر تجب البراءة منه، فرسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إِذَنْ خالع لنفسه من النبوءة، خارج من الدين، يوم الذي صيَّر الحكم إلى سعد بن معاذ حين أبت اليهود من بني قريضة أن تنزل على حكمه، وسألت أن تنزل على حكم سعد بن معاذ.
وحين دعا اليهود والنصارى إلى المباهلة فقال:{[فَقُلْ] تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران/61] .
وحين قال:{فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[القصص/49] .(1/157)
فإن كان الحق عند الخوارج على ما فعل النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام من تصيير حكم بني قريضة إلى سعد بن معاذ، والمباهلة للنصارى، وسؤاله كتاباً هو أهدى من كتابه إنصافاً لهم، وإثباتاً للحجة عليهم، وقلة شك منه لما هو فيه، وثقة بما هو عليه، وعلمه أنهم لا يأتون بكتاب هو أهدى من كتابه، فِلَمَ عابت الخوارج أمير المؤمنين وقد فعل مثل فعل رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام عَلَى أن مع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ملائكة منزلين ومردفين ومسومين يضربون من أدبر وتولَّى، فأعطاهم [رسول] الله أكثر مما فعل أمير المؤمنين.
فإن قالوا: قد أخطأ وأخطأنا إذ حَكَّم كافرين في دماء المسلمين.
فقل لهم: أخبرونا عن أبي موسى وعمرو متى كفرا أَقَبْل التحكيم أم بعده؟
فإن قالوا: قبل التحكيم.
فقل لهم: فابرؤُا إِذَنْ من رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام إذ ولّى أبا موسَى تهامة، وولى عمرو بن العاص غزوة ذات السلاسل على سرية من المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر.
وابرؤا أيضاً من عمر بن الخطاب إذ ولّى أبا موسَى البصرة وهو كافر يحكم في دمائهم، وفروجهم، وأموالهم.
فإن قالوا: إنما كفر بعد الحكومة.
فقل لهم: فما يلزم أمير المؤمنين من كفر أبي موسَى إذ كفر بعد إيمانه، أَمره أن يحكم بما أنزل الله كما أمر الله أهل الكتاب النصارى وغيرهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه؛ إذ يقول:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّه فِيه} [المائدة/47] ، فأمرهم أن يحكموا وهم كفار، فلو حكموا بالإنجيل لخرجوا من كفرهم.(1/158)
وكذلك أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ما ذا عليه إذ أمر أبا موسى أن يحكم بما أنزل الله فلم يفعل؛ مع أن قولهم حَكَّم أبا موسَى وهذه لفظة تغليط؛ لأن بين التحكيم والحكم فرقاً في المعنى واللفظ.
[الفرق بين التحكيم والحكم]
فأمَّا التحيكم: فقول الرجل للرجل:(إحتكم في مالي ما شئت) على أنه لا يرده فيما طلب، وهذا معنى التحكيم.
[وأمَّا الحكم]: فقول الرجل للقاضي:(أحكم بالحق)، فليس للقاضي أن يعدو حكم الله؛ لأنه مؤتمن.
وكذلك أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ إنما أمر أبا موسى أن يحكم بالائتمان منه على الإيمان.
[الفرق بين الإيمان والائتمان]
فإن قالت الخوارج: ما الفرق بين الإيمان والائتمان، وما المعنى فيهما؟
فقل لهم: أمَّا الإيمان: فمثل الرَّجل يُوَكِّل الرَّجل فيما يثق به، فهو أمينهُ، والعدل عنده في كل ما صنع، راضياً بذلك عليه وله.
وأمَّا الائتمان: فمثل الرجل يأمر (اليهودي والنصراني) فيقول له:(اتق الله وانظر في وجه النظر، واحكم بما حكم الله)، واليهودي والنصراني عنده غير ثقتين ولا أمينين، فمتى حكما بحكم الله خرجا من كفرهما.
[الجواب على الخوارج في تحكيم علي(ع) الحَكمين وهو يعلم أنهما يخلعانه]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن الشيعة تقول: إن علي بن أبي طالب يعلم الغيب.
ولو كان يعلم الغيب لما حَكَّم الحكمين وهو يعلم أنهما يخلعانه.(1/159)
وزعموا: أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يعلم الغيب، واحتجوا بقول الله عَزَّ وَجَلَّ:{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ}[الأعراف/188] .
وزعموا: أن أحداً لو يعلم الغيب لعلمته ملائكة الله المقربون.
ولعَمْرِي ما قالت الشيعة ولا أحد من الخلق أن عليّاً يعلم الغيب.
الجواب في ذلك قول الشيعة:
إنَّ لله تبارك وتعالى عِلْمين؛ عِلم لم يُطْلِع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً.
وعِلم أطلع عليه من شاء من أنبيائه المرسلين.
وقد أعلم تبارك وتعالى من أنبيائه من الغيب ما لم يُعلمه ملائكته.
هذا آدم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ نبي الله قد علم من الغيب ما لم تعلمه الملائكة، قوله تبارك وتعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة/31] وكانت الأسماء ممَّا غَيَّبَ الله علمها عن الملائكة، ثم عرضهم على الملائكة فقال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة/31] ، فتبرؤا من علم الغيب الذي علمه آدم ولم يعلموه، فكان من قولهم:{سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة/32] .
قال الله:{يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة/33] ، فأعلمهم أن علم آدم من علم الغيب.(1/160)