فقل للخوارج: فلم لم تنكروا على رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أن يأمر بقتل رجلٍّ يصلي لم يشهد عليه أحد من الأُمَّة أنه قتل نفساً، ولا جحد فرضاً، وأنكرتم على أمير المؤمنين، فقال قوم:(بايعوه). فنكثوا بيعته، وخلعوا طاعته، وفارقوا جماعته، مع إقرارهم بأنه وصيّ رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
[قصة الصبي المتعبد الذي أمر النبيّ (ص) بقتله]
وقد روي عن أبي أويس قال: حدثنا عبد العزيز بن محمَّد بن أبي عبيد [الدراوردي] عن موسى بن عبيد بن عبد العزيز الزندي عن هود بن عطاء، عن أنس بن مالك قال:
كان صبي وجِدَ متعبداً على عهد رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام يعجبنا شأنه، فذكرنا ذلك للنبي عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام ذات يوم، فقال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((لا أعرفه)).
فوصفناه فلم يعرفه، فبينا نحن على ذلك إذ طلع فقلنا: هو هذا.
فقال رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((إنِّي لأرى رجلاً عليه مقنعة من الشيطان)) .
فأقبل عليه حتى وقف علينا، فقال له النبي [-صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-]:((نشدتك بالله؛ هل قلت حين وقفت علينا: ما في هذا المجلس أحد خير مني؟)).
فقال: نعم.
ثم دخل يصلي، فقال النبي عليه وآله السلام:((من يقتله؟)).
فقال أبو بكر: أنا.
فقام ليقتله، فلما رآه يصلي تركه ورجع، فقال: يا رسول الله؛ نهيتنا عن قتل المصلين فكرهت أن أقتله وهو يصلي.
فقال رسول الله:((من يقتله؟)).
فقال عمر: أنا.
فوجده عمر ساجداً فقال: قد رجع من هو خير مني، وجدته ساجداً فلم أقتله.(1/151)


فقال رسول الله:((من يقتله؟)).
فقال علي بن أبي طالب: أنا أقتله يا رسول الله.
فقال رسول الله:((أنت إن أدركته)).
فذهب فلم يقدر عليه، ووجده قد خرج.
فقال رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ:((لو قتل هذا لكان أولهم وآخرهم ما اختلف من أُمَّتِي رجلان)).
[قصة موسى عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ والعبد الصالح]
فإن أنكرت الخوارج هذا الحديث فقل: هل ينكرون ما حكى الله في كتابه المنزل على لسان نبيِّه المرسل عن موسى نبي الله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ والعبد الصالح الذي قال فيه:{عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا}[الكهف/65-70] .
فلما ركبا في السفينة خرقها العالم؛ فكان خرقها لله رضاً، ولموسى سخطاً، ولأهلها نجاةً.
فقال موسَى:{أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا}[الكهف/71] .
ولا اختلاف عند ذوي العقول وأهل المعرفة أن خرق السفينة دليل على غَرَق أهلها، وعند العالم علم ما لم يطلع عليه ذووا العقول أن ذلك نجاة لأهلها.(1/152)


فقال العالم لموسَى:{أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}[الكهف/72] ، فقال موسى:{لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}[الكهف/73] .
{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا}[الكهف/74] فقتله العالم، فقال موسى:{ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}[الكهف/74] ، فكان قتل العالم [للغلام] لله رضاً، ولموسَى سخطاً، ولأبويه صلاحاً.
ولا اختلاف بين الأُمَّة أن من قتل نفساً بغير نفس دليل على الإثم الكبير، وعند العالم من العلم ما لم يكن عند موسى.
فقال له العالم:{أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}[الكهف/75] . فقال:{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا}[الكهف/76] .
{فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ}[الكهف/77] فأقامه العالم، فقال له موسَى:{لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}[الكهف/77] ، فكان إقامة الجدار لله عَزَّ وَجَلَّ رضاً، ولموسى سخطاً، وللغلامين صلاحاً؛ لأن يستخرجا كنزهما من تحته، فقال العالم لموسَى:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[الكهف/78] .
فأخبر العالم موسى بخبر السفينة وأخذ الملك السفن غصباً بأنه خاف عليها.(1/153)


وبخبر الغلام وما خشي أن يرهق أبويه من الطغيان والكفر، وأن الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ أراد أن يبدلهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً.
وبخبر الجدار وبالكنز الذي كان تحته للغلامين حين أقامه؛ لأن يبلغ الغلامان أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربِّك.
ثم اعتذر العالم إليه فقال:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}[الكهف/82] إنما فعلته عن أمر الله.
وكذلك أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ كان عنده من العلم بقتال أهل النهروان ما لم يكن عند من نقم عليه ذلك، ولم يقتلهم إلا بأمر رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، ولم يأمر رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عليّاً بقتلهم وقتالهم إلا بأمر الله، فكان قتلهم لله رضاً، ولمن نقم ذلك سخطاً، وللأُمَّة صلاحاً.
[وصيَّة رسول الله (ص) لعليٍّ(ع) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين]
لكن الأُمَّة نقلت أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أوصى إلى علي وقال له:((قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين)).
فلم يكن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام ليوصي إلى علي إلا بأمر الله تبارك وتعالى.
ولم يكن الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ ليأمر رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أن يوصي إلى عليٍّ وهو يعلم أنه يسفك الدماء التي حرم الله، ولا يُغيِّر، ولا يُبدِّل؛ لأنه ليس من فعل حكيم أن يرسل رسولاً وهو يعلم أن ذلك الرسول يخالف أمره، ولا يكون إلا معصوماً باختياره واستحقاقه، ولا يفعل إلا ما يُؤْمر به؛ لأنه تبارك وتعالى عالم بما الخلق عاملون، وما إليه صائرون.(1/154)


وكذلك قال -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:{مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}[الأحقاف/9] .
فإن زعموا: أن طاعته ليس لله بطاعة، وأن معصيته ليست لله بمعصية؛ وإنما أقاموه ضرورة من جهة التراضي بين المسلمين لا من جهة الفرض من الله؛ كالميتة يحل أكلها لمن اضطر إليها، وكالتيمم من الصعيد مباح لمن لم يجد ماءً.
فسلهم: ماذا يقولون في سفك ما سفكوا من دماء أصحاب معاوية، وأصحاب طلحة، والزبير، وعائشة، وما سفك أصحاب معاوية، وأصحاب طلحة، والزبير، وعائشة، من دماء أصحابهم على ضرورة كان ذلك؟
أم لم يجدوا الذي أمروا به كما لم يجدوا أصحاب الميتة طعاماً حتى اضطروا إلى أكلها والطعام موجود معروف؟!
وكما لم يجد المتيمم ماء في وقت حاجته إليه حتى اضطروا إلى الصعيد، والماء بعد ذلك قائم موجود معروف؟
فنحن نجد الماء والطعام بعد عدمهما في وقت الضرورة موجودين قائمين ليسا بمنقطعين أبداً.
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ أمر مصلحاً يصلح بين فِئَتين من المسلمين اقتتلتا طاعة من الله مفروضة وهو عندهم معدوم، وهذا من المحال، وليس من فعل حكيم أن يأمر تبارك وتعالى مصلحاً يصلح بين فِئَتين طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، وهو معدوم لا يعرف.
لقد أعظمت الخوارج ومن قال بمقالتهم في هذا الفرية على الله، سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علواً كبيراً.
فما عذرهم عند الله في سفك دم من لم يؤمروا بسفك دمه؟(1/155)

31 / 42
ع
En
A+
A-