فإذا كانت الصلاة - فيما زعموا عندهم - عمود الدين، وهي أفضل الأعمال، وهي دليلهم على أبي بكر؛ إذ زعموا أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أمره بالصلاة فقد دلَّهم عمر على صهيب إذ أمره بالصلاة، فما كان حاجتهم إلى الشورى، مع أن تصحيح فعال عمر في الشورى وصرفه الخلافة عن علي بن أبي طالب، ومحبَّته أن يصيِّر إلى عثمان بن عفان من جهة عبد الرَّحمن بن عوف، أنهم لما اجتمعوا فاحتج عليهم أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بما قد ذكرنا فلم يقبلوا من قوله شيئاً، فقال عبد الرَّحمن - وقوله لأصحاب الشورى -:(صيِّروا الأمر في يدي على أنِّي أخرج منها نفسي وأصير الخلافة إلى رجل منكم ترضون به جميعاً، يعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيِّه).
فصيَّروا الأمر إليه على هذه الشريطة، فلم يختلج أحد ممن له عقل ومعرفة أن عبد الرَّحمن بن عوف سيصيرها إلى علي؛ إذ ليس أحد من القوم أعلم بكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا بحلاله ولا بحرامه، ولا سنَّة رسوله منه.
فخلا عبد الرَّحمن بأخيه عثمان فقال له:(أصيِّرُها إليك على أن تعمل فيها بكتاب الله وسنة نبيه، وتسير فيها سيرة أبي بكر وعمر، وتجعل لي مصر طعمة ما بقيت).
فأجابه إلى ذلك، واستتر بقوله:(تعمل فيها بكتاب الله وسنَّة رسوله)، فأوضح سيرة أبي بكر وعمر، ولم يرد غير سيرتهما؛ لأنه علم أن علياً لا يسير بسيرتهما.
ثم خلا بسعد فقال له:(أصيِّرُها إليك على أن تحكم فيها بكتاب الله وسنة رسوله، وتسير فيها بسيرة أبي بكر وعمر، وتجعل لي مصر طعمة ما بقيت). فأجابه إلى ذلك.(1/146)


ثم خلا بطلحة بن عبيد الله فقال له مثل مقالته لصاحبه، فأجابه إلى ذلك.
ثم خلا بالزبير بن العوَّام فقال له مثل مقالته لأصحابه، فأجابه إلى ذلك.
ثم خلا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ فقال:(إنِّي أُصيِّرُها إليك على أن تحكم فيها بكتاب الله وسنة نبيِّه، وتسير فيها بسيرة أبي بكر وعمر، وتجعل لي مصر طعمة ما بقيت).
فقال أمير المؤمنين:(أحكم فيها بكتاب الله وسنة نبيِّه، وأنظر في شرطك في مصر؛ فإن كان يصير لكل رجل من المسلمين مثل مصر صيرت لك مصر وإلا فليس لك عندي إلا ما لأقصَى رجل من المسلمين وأدناهم).
فأعاد عبد الرَّحمن الشروط كلها على القوم فأجابوه بجوابهم الأول ما خلا أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ فلم يجبه إلاَّ إلى ما قد كان قال له.
فجعل يسألهم ثلاث مرات فيجيبوه بقول واحد، ويسأل أمير المؤمنين فيجبه بجوابه الأوَّل.
ثم قال عبد الرَّحمن لأخيه عثمان:(أبسط يدك أبايعك)، فبسط يده فبايعه.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: في أي كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وسنة نبيِّه عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام كانت الشروط؟
وهل كانت سيرة أبي بكر وعمر بغير كتاب الله وسنة نبيه؛ إذ أجابه القوم إلى ذلك، وكره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ؟!.

[التحكيم]
وزعمت الخوارج: أن علياً حكَّم في دين الله ولم يكن ذلك له.
وزعموا: أنه حكَّم كافرين: أبا موسَى الأشعري وعمرو بن العاص، وكان الحُكم فيهم القتال، أو الفيء إلى أمر الله.(1/147)


واحتجوا بقول الله تبارك وتعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات/9] .
واحتجوا بحكومة ذوي عدل بقتل عصفور قُتل في الحرم، وغير ذلك.
[الجواب في التحكيم]
سل الخوارج عن ذات أنفسهم؛ إذ كانوا في عسكر علي يقاتلون معاوية، وأهل الشام في عسكر معاوية يقاتلون معه، يضرب بعضهم رقاب بعض، أَفِئَة واحدة كانوا مؤتلفين أم مفترقين مختلفين؟
فإن قالوا: بل فئتين مختلفتين، تدَّعي كل واحدة منهما الحق، وتدَّعي كل واحدة منهما أن الأخرى عليها باغية.
فقل لهم: فإن كانوا كذلك فمن أي جهة نقَلت أن عليّاً كافرٌ؛ أمن الموافق لها أم من المخالف؟!
فإن قالوا: بل من الموافق من أصحابهم.
فقل لهم: كيف تُقبل شهادتهم على عليٍّ وهم أعداؤه وخصماؤه؟
فإن كانت تجوز شهادة الخصم على خصمه لم لا تجوز شهادة علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ أنهم كُفَّار كما جوَّزُوا شهادتهم على علي أنه كافر؟
وكيف تجوز شهادة أبي لهب - عدو الله - على رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ: أنه ساحر، وشاعر، ومجنون؟!.
فإن قالوا: لا تجوز شهادة العدو على عدوه.
فقل لهم: فكيف تجوز شهادة الخوارج على عليٍّ وهم أعداؤه؟
وإن كان لا تجوز شهادته عليهم ولا شهادتهم عليه دون ناظرٍ في أمره وأمرهم من غيره وغيرهم، وهو الناظر الذي افترض الله عليه الإصلاح بين الفئتين إذا اقتتلتا.
فإن قالوا: لا يجوز دون ناظرٍ بينهما ليعرف الباغي من المبغي عليه.(1/148)


فقل لهم: أخبرونا عن هذا الناظر الذي ينظر بينكم؛ أليس طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله؟
فإن قالوا: بلى؛ وقد نظرنا نحن فلم يخف علينا ولا على أحد من الأُمَّة أن معاوية وأصحابه هم الباغون على علي وأصحابه، فلم نجد إلا القتال لمعاوية ولأصحاب علي حتَّى يفيئُوا جميعاً إلى أمر الله.
فقل لهم: ليس النظر إليكم، إنما النظر إلى غيركم فيكم وفي أصحاب معاوية؛ لأنكم فِئَتان اقتتلتم فأَمَرَ الله غيركم بالنظر فيما بينكم لأن يصلح بينكم أو يقاتل الفئة الباغية منكم؛ لأنه المأمور بالإصلاح بينكم، أو القتال لهم، أو لكم، فعليه الأمر والنهي لكم، وعليكم السمع والطاعة له، ليس لكم أن تنازعوه، ولا تُخَطِّئُوه في شيءٍ من أفعاله؛ لأنه هو المسئُول عمَّا أمر به يوم القيامة مطيعاً كان لله أو عاصياً، وأنتم المسئولون عن أمره ونهيه إيَّاكم، ناجين بطاعته، وهالكين بمعصيته؛ إذ كانت - زعمتم - طاعته طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ، ومعصيته معصية الله.
فإن قالوا: إن من كانت طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله لم يقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، ولم يُحكَّم كافرين في دماء المسلمين، ونحن نرى علي بن أبي طالب قد حَكَّم كافرين في دين الله في سفك دماء المتهجدين في الأسحار، القائمين الليل، والصائمين النهار، لم يشهد عليهم أحد من الخلق أنهم سفكوا دماً، ولا استحلوا محرماً، ولم يجحدوا ربًّا، ولم يتركوا صلاةً ولا صياماً.(1/149)


[قصة ذي الثدَيَّة بن ذي الخنيصرة التميمي]
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: أليس تشهدون أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام طاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله؟
فإن قالوا: بلى.
فقل لهم: فهل يشهد أحد من الخلق على ذي الثدية بن ذي الخنيصرة التميمي أنه قتل أحداً على عهد رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، أو استحل محرماً حين أمر النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام بقتله، وذلك أن الأُمَّة نقلت بالأثر المشهور أنهم قالوا:
بينا رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام يُقسِّم الغنائم في مسجده؛ إذ دخل عليه ذو الثُدَيَّة بن ذي الخنيصرة التميمي فقال له: إعدل يا محمَّد!.
قال:((ويْلك! إن أنا لم أعدل فمن يعدل؟)).
ثم دخل المسجد يصلي فدفع عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إلى أبي بكر سيفاً فقال:((إذهب؛ فاقتل المصلي)).
فذهب أبو بكر فوجده راكعاً يصلي فكره قتله، وتحرَّج من ذلك ورجع إلى النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فقال: يا رسول الله؛ وجدتُ رجلاً يصلي راكعاً فكرهت أن أقتل مصلياً.
ثم دفع السيف إلى عمر وأمره بمثل ما أمر به أبا بكر، فوجده ساجداً فكره قتله فرجع إلى النبي فقال: يا رسول الله؛ وجدتُ رجلاً ساجداً فكرهت قتله.
ثم دفع السيف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وقال:((إذهب؛ فاقتل المصلي، ولا أراك تجده، وأنت قاتله في عصبة يخرجون عليك معه)).
فذهب أمير المؤمنين فلم يجده حتى خرج عليه هو وأصحابه يوم النهروان، وقتله أمير المؤمنين وأصحابه.(1/150)

30 / 42
ع
En
A+
A-