وقد نحلوا علياً الضَّعْف، وألزموه وجميع الأُمَّة الكفر والضلال، والذي قال بذلك أشتم لعلي وأكذب.
وقد بلغنا عن بعض العلماء أنه رفع عن علي أنه قال:((سيهلك فيَّ اثنان: عدوٌ مفرط، ومحب مغرق)) .
فأمَّا أهل الشام فهم أصحاب عثمان ومعاوية وعَمْرو فيطعنون على علي ويفرطون.
وأمَّا الشيعة فيغرقون فيه حتى كذبوا عليه، وأنحلوه ما لم ينحل نفسه، ولم يدّعه قط، ولم يقل فيه.
وكذلك قالت النصارى في عيسى بن مريم -عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ- حين جعلوه إلها وسموه ابن الله، وجعلوه وأُمَّه وربَّ العالمين ثلاثة، فسبحان الله عمَّا يقولون علواً كبيراً، وعيسى -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ- بريء منهم غير راض به، بل قال:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ}[مريم/30] ، وقالت اليهود عزير بن الله، وقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه كذباً على الله وجرأة عليه، قال الله -تبارك وتعالى-:{قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}[المائدة/18] .
وكذلك قالت الشيعة إن علياً يعلم الغيب، وقال بعضهم إنه إله، وقال بعضهم إنه وصي.(1/11)
فيا سبحان الله!! ما أشبه بعضهم ببعض، ولو كان علي يعلم الغيب ما حكَّم الحكمين، وهو يعلم أنهما يخلعانه من الإمامة ويجعلانها [لغيره]، وكذبوا ليس يعلم الغيب إلا الله رب العالمين، وقد ذكر الله في كتابه قول نبيه محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال:{وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ}[الأعراف/188] .
ولو كان أحد يعلم الغيب لعلمته الملائكة والأنبياء، وكانوا أحق بذلك، وقد سأل الله الملائكة فقال:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة/31-32] وصدقوا لم يكلفوا ما لا يعلمون، فلم يكن ذلك عليهم عاراً ولا عيباً.
ولو كان أحد يعلم الغيب لكانت أنبياء الله وملائكته أعلم بذلك من غيرهم؛ لفضلهم على غيرهم الذي فضَّلهم الله به، ليس أهل الجور والكذب إلا يقولون على الله ما لا يعلمون.
وأمَّا قولهم إنه غُلب على رأيه حتى حَكَّم الحَكَمين، فلو كان بما قالوا حقاً من أنه غير راضٍ بحكمهما طائعاً وكارهاً، ويعلم أنهما يَحكمان بغير ما أنزل الله فقد كفروا ونسبوه إلى الضعف والضلال؛ لأن الله يقول:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}[المائدة/45] و{الْكَافِرُونَ}[المائدة/44] و{الْفَاسِقُونَ}[المائدة/47] ثلاث آيات متتابعات من كتاب الله.(1/12)
وقال الله:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}[الحجرات/9] .
وقد عَلِمَ أهل العقول والألباب من أهل العلم أن معاوية وعمرو ومن اتبعهما قد بغوا، وأسرفوا، واستحلوا قتل المسلمين بغير الحق لو لم يكن من جَورهم إلا قتل عمَّار بن ياسر وابن بديل، فكيف وقد قُتِل من شِبههما نحو من سبعين ألفاً من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان؟!.
فإن كان علي قاتلهم على حكم الله وكتابه؛ فَلِم جَوَّز لنفسه أن يترك حكم الله الذي حكم به على الفئة الباغية، وحَكَّم عمرو بن العاص شانئ رسول الله في الجاهلية والإسلام، والمستحل لدماء المسلمين بغير الحق، وأبا موسى الأشعري المخدوع؟
فأي الحُكْمَيْن أحق أن يحكم به: أحكم الله الذي قاتل عليه أول مَرَّة حتى قَتل عليه نحو من سبعين ألفاً، وقال بعضهم: تسعين ألفاً. والله أعلم؟ أو حكم عمرو وأبي موسى الأشعري؟!.
ولعَمْرِي؛ لقد كان حكمهما خسراناً مبيناً، وما كان يجوز لعلي ومن معه أن يحكِّموا عمرو بن العاص في دم عصفور أصيب في الحرم، فكيف في دماء المسلمين، والله يقول في الصيد الذي يصيبه في الحرم المحُرمُ:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ}[المائدة:95] فيما لم يأت به من الله فيه حكم منزل، ولقد حَكَم الله في قتال الفئة الباغية حكما مُفصَّلاً.(1/13)
ولقد علم كل ذي عقل أن علياً أولى بالإمامة من معاوية وعمرو بن العاص، وما قاتلهم إلا على اتفاقهم بحكم الله في الفئة الباغية، وليس لله في الفئة الباغية حكمان مختلفان، وإن حكم الله في ذلك لحكم واحد.
وقد بلغنا أن حوشب ذا ظليم الأَلهاني، وكان من أصحاب معاوية، وكان فيما يقال من أجمل الناس وأبلغهم، نادى علياً قبل وقعة صِفِّين بأيام، فأجابه علي والتقيا بين الصَّفين، ودنا منه حتى اختلفت أعنة دوابهما، وقد أمِن كل واحد منهما صاحبه، ولم يكونوا أهل غدر ولا فجور، فقال: يا عليّ! إن الله قد جعل لك سابقة وشرفاً وصهراً، وتجربة للأمور، فهل لك أن تحقن دمك ودماء المسلمين، وتضع الحرب عنَّا وعنكم، فيكون ذلك أسلم لدماء المسلمين؛ تخلي بيننا وبين شامنا، ونخلي بينك وبين عراقك؟
فقال عليٌ: هيهات يا ذا ظليم إنك لم تأل حرصاً، ولا تحُضَى بجهدك وعلمك، ولكنِّي ضربت الأمر ظهره لبطنه، والله يغيِّبه عني حتى يتبيَّن لي ذلك اليوم من الليل، فما وجدته يسعني عند الله إلا قتالهم، أو الجحود بما أنزل الله على محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، فكان مؤنة القتال في هذه الدنيا أهون عليَّ من النار، والسلاسل والأغلال.
فانصرف حوشب ذو ظليم وهو يقول: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون؛ هلكت العرب وربِّ محمَّد.
فما كان بعد ذلك إلا بضعة عشر يوماً حتى افترقوا عن سبعين ألف قتيل من جحاجح العرب أكبرهم حوشب ذو ظليم، من بعد هذا ما كان من أمر الحَكَمين، والله أعلم بأمورهم، وحسابهم إلى الله، ولم نُكلَّف إلا أنفسنا، والله المستعان.(1/14)
وقد بلغنا أن الحَجَّاج بن يوسف سأل الحسن بن أبي الحسن البصري: ما تقول في علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، إنهم كانوا على الصواب أو الخطأ؟
فقال الحسن: أقول فيهم كما قال من هو خير مني لمن هو شر منك: قال فرعون لموسى: ما بال القرون الأولى؟
قال: علمها عند ربِّي في كتاب لا يضل ربِّي ولا ينسى.
وقد بلغنا عن الربيع بن خثيم أنه قيل له: لِمَ لا تذكر الناس؟
فقال: ما أنا راضٍ عن نفسي حتى أفرغ من ذمها إلى ذم الناس، إنِّي لا أخاف الإثم في ذنوب الناس وأخافه من ذنوبي.(1/15)