قال: أفيكم من قال له رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ يوم الغدير عن أمر الله ما قال لكم:((أيُّها الناس؛ من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهُمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأعزّ من أعزه))، وقال:(( هذا وليكم من بعدي))، غيري؟
قالوا: اللهمَّ لا.
ثم قال: أناشدك الله يا عثمان، وأنت يا طلحة، وأنت يا زبير، وأنت يا عبد الرَّحمن، أما كنتم عشرة رجال عند رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وأبو بكر، وعمر، وأنتم أيُّها الأربعة، وسلمان الفارسي، والمقداد، ويزيد بن الحصيب الأسلمي، فقال رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لأبي بكر:((قم يا أبا بكر فسلم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب)).
فقال أبو بكر: أمن الله ومن رسوله؟
قال:((نعم)).
فقال لعمر، فقال مثل مقالة أبي بكر: أمن الله ومن رسوله؟
قال النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((نعم)).
ثم قال لك يا عثمان فقلتَ مثل ما قالا، ثم قال لجميعكم فلم تقولوا مثل ما قالوا؛ (بل) سلمتم ورضيتم؟
قالوا: اللَّهُمَّ نعم؛ قد كان ذلك جميع ما قلت، لا يُنكر ولا يُجحد.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: بماذا تدافعون هذه الحجج؟!.
أمَا كان حُجَّة أصحاب الشورى على أمير المؤمنين يومئذٍ!؟(1/141)
[الجواب على من قال : إن الشورى فرض من الله تعالى]
[فإن قالوا]: إن الشورى فرض من الله تبارك وتعالى لقوله:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى/38]؟
فقل لهم: ما حجتهم على من خالفهم فقال: إنما نزلت في الخلق عامة تأديباً لهم لا فرضاً عليهم، واحتج بقول الله تبارك وتعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ}[البقرة/277] ، {[وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ] وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الشورى/38] فكل من كان على هذه الشريطة - إذا آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأنفق ممَّا رزقه الله - فأمرهم شورى بينهم بالتأديب لا بالفرض، ولو كانت فرضاً لازماً ما جاز لأحدٍ من الأمَّة أن يبتاع ولا يبيع بدانق حتى يشاور الأمَّة جميعاً، وهذا ما لا يكون.
فإن قالوا: هذا في الخلافة.
فقل لهم: فلِم لم يسند رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أمر الخلافة إلى ستة نفر حتى يختاروا منهم رجلاً - إن كان فرضاً - كما أسند عمر أمر الخلافة إلى ستة نفر، ولم يسند أبو بكر أيضاً إلى ستة نفر - إن كان فرضاً -؟!
أم كيف أصاب عمر الفرض ولم يصبه رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام، ولم يصبه أبو بكر؟!
ولكن زعموا: أن عمر أنكره أن يتقلد أمر الأُمَّة بعد وفاته خِيفة أن يحكم بجور فيجري عليه إثم ذلك الجور؛ فصيرها إلى ستة نفر ليتشاوروا في ذلك فدخل فيما كره من حيث علم، وجهلته العامَّة، فافهم من ذلك بما سنوضحه إن شاء الله تعالى من الحجة لنا في قوله [تعالى]:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى/38](1/142)
إنا نقول: إنما قال:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى/38] ؟ ولم يقل:(أمري شورى بينهم)، ولا:(أمر ديني شورى بينهم)، ولا:(فرضي شورى بينهم)، فافهم هذا إن شاء الله تعالى.
[حديث المؤاخاة]
رجع الكلام إلى قولنا: فيما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
الجواب في ذلك:
قد علمت الأُمَّة أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ آخا بين أصحابه فاختار بعضهم لبعض على قدر فضائلهم، وسوابقهم، ومنازلهم.
فآخا بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبد الرَّحمن بن عوف وعثمان بن عفّان، وبين سعد بن أبي وقّاص ومعاذ بن جبل، وآخا بين نفسه صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وبين علي بن أبي طالب؛ إذ لم يكن له كفواً في جميع الأرض غيره، ولا نظير له فيهم غيره، وكان كل واحد منهم برًّا بأخيه، مصفياً له هواه، مائلاً إليه بودِّه، ولا يؤثر عليه غيره.
فكان النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ السلام أبر الخلق بأخيه، لا يتقدمه عنده أحد في ثقته، وبره إيَّاه، وإفضائه بأسراره إليه أولى الخلق بذلك صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ؛ حتى إذا حضرته الوفاة أوصى إليه بقضاء دينه، وإنفاذ عدَّته، وغسله وحنوطه وكفنه، دون الأُمَّة كلها، لا يختلف في ذلك أحد.
فقام علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بهذا كله دون الخلق مع ما عهد إليه وإلى الأُمَّة فيه من الولاء في غدير خُمٍّ.(1/143)
[اشتغال علي (ع) بجهاز رسول الله (ص)]
فلما توفي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- اشتغل علي بجهاز أخيه، واشتغل أبو بكر وعمر بطلب مقام علي من رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، فدعا كل واحد منهما الناس إلى بيعة أخيه كما دعا رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلى بيعة عليٍّ أخيه، فلم يُطَعْ إذ دعا إليها، وأُطِيْع عمر إذ دعا إلى بيعة أخيه أبي بكر، فقام أبو بكر مقام عليٍّ، وكان طلب الخلافة عندهما أولى من جهاز رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ومواراته في قبره صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، والحزن عليه، وعظم المصيبة.
فلما حضرت أبا بكر الوفاة دعا الناس إلى بيعة عمر أخيه، ورد الأمر إليه، وكذلك قال أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ يوم بيعة أبي بكر لعمر حين قال عمر لعليٍّ: أيُّها الرجل لست بمتروك أو تبايع.
فكان من قول علي لعمر: احلب حلباً لك شطره، أشدد له الأمر اليوم ليرده عليك غداً.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: أليس قد حلب عمر لأبي بكر ورد عليه أبو بكر فقام عمر مقام أخيه بالخلافة.
فلما حضرته الوفاة نظر إلى من بقي من الأخوة الذين آخا بينهم رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ممَّن يصلح للخلافة عندهم، فإذا عثمان بن عفّان وعبد الرَّحمن بن عوف أخوان، وإذا طلحة والزبير أخوان، وإذا علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقّاص ليس واحد منهما لصاحبه بأخ.
فعلم عمر أن كل واحد من هؤلاء الأربعة؛ كل واحد منهم يدعو إلى أخيه ولا يؤثر عليه أحد.(1/144)
وعلم أن عبد الرَّحمن بن عوف وسعد بن وقاص ابنا عم، زهريان، كل واحد منهما صِهر لصاحبه مع الأخوة.
فأمر الخمسة واحد من جهة الأخوة والقرابة والصهورة، وبقي على بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ ليس له في القوم أخ، ولا صهر، ولا قريب، ولا من يعتضد به، ولا من يدعو إليه؛ غير أن الزبير قد كان دعا إلى علي يوم بيعة أبي بكر فخرج بسيفه وقال: لا أبايع إلا عليّاً.
فصاح عمر: اقتلوا الكلب -يعني الزبير-.
فوثب إليه أسيد بن الحضير وسلمة بن أسلم فانتزعوا السيف من يده.
فخاف عمر شذوذ الزبير وميله إلى علي لتلك الفعلة، ووثق بهؤلاء الأربعة أنهم لا يدعون إلى علي، ولذلك جعلها عمر شورى.
والدليل على ذلك قوله:(إن اجتمع ثلاثة وثلاثة فالحق في الفرقة التي فيها عبد الرَّحمن بن عوف)، وذلك أنه علم أنه يدعو إلى أخيه عثمان بن عفّان:(إن اتفق أربعة وخالف اثنان فاضربوا أعناق الاثنين)؛ لأنه علم أن علي بن أبي طالب والزبير سيخالفان، وأن عليّاً سيدعو إلى نفسه ويستجيبه الزبير كما خالفا عليهم يوم بيعة أبي بكر، وإلا فما دليل عمر أن الحق في الفرقة التي فيها عبد الرَّحمن بن عوف؛ إذ لم يكن أمراً من الله ولا من رسوله.
ثم حكم بحكم آخر: أن يصيروا الستة أصحاب الشورى في بيت ويتشاوروا فيه ثلاثة أيام، ولا يدخل عليهم أحد، (فإن مضت ثلاثة أيام ولم يقيموا رجلاً منهم فاضربوا أعناقهم جميعاً).
وصيَّر على ضرب أعناقهم ابنه عبد الله [بن عمر]، واستخلف على الصلاة صهيب الرومي، فكان يصلي بالمهاجرين والأنصار.(1/145)