فقل لهم: لم يجهله؛ (بل) هو به عارف، وله غير منكر؛ ولكن أحب أن يُشهره ويُنوِّه باسمه، ويُعلم الخلق بفضله؛ كقوله تعالى لموسى بن عمران عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}[طه/17] ، وهو تبارك وتعالى بها أعلم.
فقال موسى عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ:{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}[طه/18] .
وإن أحق من يُعزَّ به الإسلام من افتتح خيبر واقتلع بابها فرمى به خلفه أربعين ذراعاً، وكان لا يفتحه إلا أربعون رجلاً.
وأحق من يعز به الإسلام من فَرَّج عن النبي - صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - وعن أصحابه من عمرو بن عبد ود حين جاز الخندق وجعل ينادي بعمر وأصحابه من أصحاب النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ للمبارزة ورسول الله يقول:((من يكفيني عمرو بن عبد ود أكفيه حر يوم القيامة؟))، فكفاه الله أمره بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
وأحق من يعز به الإسلام من قتل عُتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد ومرحباً، ويأسر أبطال المشركين، وصناديد قريش، وقد أحجم عنهم عمر وغير عمر من أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
وأحق من يعز به الإسلام من له من المناقب والفضائل من لو قسمت بين أمَّة محمَّد - صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - لأوحلتهم.(1/126)
[سبب امتناع الإمام علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ عن جهاد الخلفاء الثلاثة]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أن عليّاً كان أشجع من أبي بكر وعمر، وأعز عشيرة، فما منعه أن يجاهدهم كما جاهد طلحة والزبير ومعاوية؟!.
فقل للخوارج (ومن قال بمقالتهم): إن القوم اضطروا إلى أمير المؤمنين بعد عثمان؛ إذ لم يجدوا غيره، وهم الذين طلبوه ولم يطلبهم.
فلما بايعوه ونكثوا عليه لم يسعه إلا جهاد من عَصَاه بمن أطاعه، ولم يكن أحد أطاعه يوم بيعة أبي بكر، فمن يجاهد العاصي إذا لم يجد مطيعاً؟!
فإن قالوا: يجاهد بنفسه حتى يكون ذلك له عُذراً.
فقل لهم: ما بال رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يجاهد المشركين بنفسه حتى يكون ذلك له عذراً؟ وَلِمْ هرب إلى الغار وقد كان أشجع من علي قلباً وأقوى بدناً؟!
فإن قالوا: لأن الله أمره بذلك، حتى يجد من ينصره ويؤويه.
فقل لهم: وكذلك أمير المؤمنين أمره رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ألا يجاهد بنفسه حتى يجد من ينصره ويؤويه.
فإن قالوا: لو قام ودعا إلى نفسه يومئذٍِ لما عدل الناس به أبا بكر؛ لأنه إنما كان في بيت منعة وعِزٍّ في بني هاشم، وأبو بكر في بيت قلة وذلِةَّ في بني تِيم.
فقل لهم: قد احتججنا عليكم بالحجج القاطعة والبراهين النيرة بدعاء النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إليه في حياته.(1/127)
ولسنا نقايسكم بهاشم وعزها، ولا تيم وذلها؛ ولكن انظروا في الإحَن والضغائن التي كانت في صدور القوم على علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ أن امرَأَةً أمرها رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بلزوم بيتها وتَقِرَّ فيه، ولا تبرج تبرج الجاهلية الأولى، وضرب رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عليها حجاباً، فخرجت على علي تقاتله، وخرج معها من الخلق ما لا يحصيه إلا الله عَزَّ وَجَلَّ من قريش وغير قريش ممَّن وتره أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، وممَّن لم يتره، فضربوا وجهه بالسيف، وقتلوا أصحابه، ومنعوا النصرة بأمر هذه وهي امرأة، فكيف لو رام أمير المؤمنين ذلك من أبيها أبي بكر؟!.
[ضغائن الناس لأمير المؤمنين (ع)]
فكيف ظن الخوارج كانوا صانعين بعليٍّ على تلك الإحن والضغائن التي كانت في صدورهم؟
فإن قالوا: لم تكن بينهم إحن ولا ضغائن.
* فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: فأين الرواية المشهورة التي نقلها أهل العلم أن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ ومعه علي بن أبي طالب بحديقة من نخل، ومعه غيره، فقال علي: يا رسول الله؛ ما أحسن هذه الحَدِيْقَة.
فقال:((يا أبا الحسن؛ حَدِيْقَتُكَ في الجنَّة أحسن منها)).
ثم مَرَّ بأخرى فقال: يا رسول الله؛ ما أحسن هذه الحَدِيْقَة.
فقال:((يا أبا الحسن؛ حَدِيْقَتُكَ في الجنَّة أحسن منها)).
ثم مَرَّ بأخرى فقال له النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ مثل ذلك حتى مَرَّ بسبع حدائق، كل ذلك يقول له علي مثل ذلك، فيقول له النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ مثل ذلك.(1/128)
ثم بكى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فقال له علي: ما يبكيك يا رسول الله؟
فقال:((ضغائن لك في صدور رجال من أُمَّتِي لن يبدوها لك حتى يفقدوني)).
* فقل للخوارج: أليس قد بدت تلك الضغائن لعلي بعد رسول الله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ في غير موطن، ولقد جهرت به قريش ونساؤهم؟
من ذلك قول فاطمة بنت عتبة إذ خطبها علي بن أبي طالب فردته وتزوجت عقيلاً فقال علي لعثمان: ألا تعجب من قول فاطمة - أي خطبتها - فردتني وتزوجت عقيلاً؟!
فعاتبها عثمان في ذلك، وكان بينها وبينه دُر.
فقالت: إن عليّاً قتل الأحبَّة يوم بدر.
* ومما حفظ أهل العلم من المخالف لنا ولكم الحديث الذي يرفع إلى عبد الله بن عباس - وهو عندكم ممَّن طعن على علي يوم هرب بجباية البصرة إلى الطائف - عن عائشة عند وفاة النبي صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ؛ إذ ذكروا أنه أمر أبا بكر بالصلاة، أن عائشة قالت:
أقبل رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عاصباً رأسه يخط الأرض برجليه يتهادى بين أُسامة بن زيد، والفضل بن العباس، ورجل آخر كرهت عائشة أن تسميه.
فقيل لعبد الله بن العباس: من الرجل الذي كرهت عائشة أن تسميه؟
قال: هو علي بن أبي طالب.
فقيل له: وما الذي منعها أن تسميه؟!
قال: إن نفسها لم تطب له بخير.(1/129)
* ومما روى أهل العلم المخالفون لنا ولكم: أن عبد الله بن عمر بن الخطاب أتى الحجاج بن يوسف ليلاً فَدَقَّ عليه بابه، فلما دخل قال: أبسط يدك أبايعك عن عبد الملك بن مروان؛ فإنِّي سمعت رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ يقول:((من مات ليلته وهو لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية)).
فلما بايعه وخرج من عنده قال الحجاج: العجب من عبد الله بن عمر!! [إنه] بالأمس يقول لعلي بن أبي طالب:(أقلني بيعتي فإني حمل رداح لا غدوّ له ولا رواح).
فأقاله بيعته، وأتاني يبايعني عن عبد الملك بن مروان!.
فكتب الحجاج بذلك إلى عبد الملك بن مروان، فأمر له بعشرة آلاف.
* ومما حفظه الخوارج وغيرهم ورواه أيضاً عن عبد الله بن عباس حين أرسله أمير المؤمنين عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بعد وقعة الجمل إلى عائشة وهي نازلة في دار عبد الله بن خلف الخزاعي بالبصرة يأمرها بالخروج إلى المدينة فقالت: أفعل والله أخرج، [والله! أما والله] ما في الأرض أبغض إليَّ من بلدة أنتم فيها معاشر بني هاشم.
فقال لها عبد الله بن عباس: أما والله ما تلك بديَّا عندك؛ لقد سمّينا أباك:(صِدِّيقاً) واسمه: عتيق بن أبي قحافة.
وجعلناك للمسلمين أُمًّا، وأنتِ ابنة أمِّ رومان.
فقالت: أتمنّون عليَّ برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؟!
فقال: [إي] والله! إنِّي لأمُنُّ عليك بمن لو كان منك لمننتِ به عليَّ.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
تم الجزء الثاني [من الكامل المنير]
[وَصَلَّىَ اللهُ عَلَىَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَّ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرًا](1/130)