فَلعَمْرِي: إن العباس لأَقرب رحماً، فإذا كان الأمر عندهم كذلك فَلِم قدموا أبا بكر على العباس إذ كان عندهم أولى وأقرب من علي، غير أن علي بن أبي طالب أولى بالخلافة من العباس بما سنوضحه إن شاء الله تعالى.
فسل الخوارج ومن قال بمقالتهم: ما حجتهم على من خالفهم واحتج أن الأمَّة أجمعت أن عليّاً أول من آمن بالله ورسوله، ولم يشرك بالله طرفة عين، وأنه كان مع رسول الله، ويذب بسيفه دونه، والعباس في ذلك الوقت مشرك بالله لم يسلم إلا بعد الهجرة، واحتج بقول الله تبارك وتعالى أن عليّاً أولى برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ من العباس؛ وذلك قول الله تبارك وتعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}[الأحزاب/6] ؟
فالمؤمن المهاجر أولى برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ من المؤمن غير المهاجر.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: هل نسخ هذه الآية من كتاب الله شيءٌ؟ أم هل تقدرون على تغييرها؟!.
[عمر أفضل من أبي بكر على مقالة الخوارج والعامة]
مع أن الأمر عند الخوارج وعند العامة أن أبا بكر أفضل من عمر، وأن عمر أفضل من العباس، فنظرنا في روايتهم فإذا عمر أفضل من أبي بكر؛ لأنهم رووا أن أبا بكر قال: إن له شيطاناً يعتريه.
ورووا أن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال:((إن الشيطان يفرّ من حسن عمر)).
فالذي يفرّ الشيطان من حسنه أفضل ممَّن يعتريه الشيطان، فعمر كان أولى بالخلافة.(1/116)
[عمر يتقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بالعبَّاس ويستسقي به]
ووجدنا عمر - الفاضل عندهم الذي هو أفضل من العباس - قد تقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بالعبَّاس المفضول، فاستسقى به الغيث، وذلك أن عمر عام الرمادة قُحِطَ الناس من الغيث فتقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بالعباس إذ أخذه بيده وقدمه بين يديه شافعاً إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فقال:(اللَّهُمَّ إنا نتقرب إليك بعم نبينا)، فأسقاهم الله.
فينبغي أن تقدموا الفاضل للخلافة، ومن هاهنا ضلّت الخوارج ومن قال بمقالتهم.
[علي الصدِّيق الأكبر]
وأمَّا قولهم: إن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ إختص أبا بكر وعمر باسمين لم يختص غيرهما بمثلهما، سمَّا أبا بكر:(صديقاً)، وعمر:(فاروقاً)، وقال الله تعالى في أبي بكر:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] ، وأن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أمره بالصلاة.
وقال في عمر:((اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)) .
وأفضل من هذا كله فيما زعموا أنهما ضجيعا رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قُبرا في قبر واحد، وأنه أمر بسد الأبواب وترك باب أبي بكر.(1/117)
[تفسير قوله تعالى:{أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ}]
الجواب: أما قولهم: إنه سمَّاه (صِدِّيقاً)؛ فما حجتهم على من خالفهم فقال: ليس لأبي بكر في هذا الاسم فضل على أحد من المؤمنين؛ لأن الله يقول في كتابه:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ}[الحديد/19] . فكل من آمن بالله ورسوله فهو صِدِّيق؛ مع أن لعلي بن أبي طالب في هذا الاسم ما ليس لغيره قول النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((علي الصِدِّيق الأكبر، والفاروق الذي يفرق به بين الحق والباطل)) ولم يقل هذا في غيره، رواه أبو ذر الغفاري.
[تفسير قوله تعالى:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ..} الآية، ومعنى الصحبة]
وأما قولهم: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] ؛ فما حجتهم على من خالفهم فقال: ليس من جماعة تنسب إلى رجل بالكون معه إلا قيل فلان ثاني اثنين، وثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وخامس خمسة ما كان العدد.
وقد قال الله تبارك وتعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ..}[المجادلة/7] الآية، فالله تبارك وتعالى مع الكافر والمؤمن لا يخلو منه أحد.(1/118)
وأما تسمية النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إيَّاه صاحباً؛ فما حجتهم على من خالفهم فقال: قد تكون الصحبة للكافر والمؤمن واحتج بقول الله تبارك وتعالى:{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ}[الكهف/37] ، فسمى المؤمن صاحباً للكافر، ونسبه إليه.
وقد كان في أصحاب رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ منافقون، وقد سمَّاهم النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أصحاباً؛ منهم: عبد الله بن أبي بن سلول صاحب الإفك، وقد كان بعض أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أشار عليه أن يقتله فكره ذلك عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ وقال:((أخاف أن يقول الناس: إنّ محمَّداً يقتل أصحابه)).
وأما قوله:{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة/40] ؛ فقل لهم: إن كان النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ هو الذي حزن فنهاه أبو بكر عن الحزن فما كان ينبغي لأبي بكر أن ينهى النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ عن شيءٍ فعله؛ لأنه أعلم من أبي بكر بما فعل، وهو الآمر والناهي لأبي بكر وغيره.
وإن كان أبو بكر هو الذي حزن فما الذي أحزنه وهو مع النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وهو يعلم أن الله وملائكته معهما؟!(1/119)
فما نهاه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إلا عن معصية، فقد كان ينبغي له أن يتأسَّى برسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ مع أن آخر الآية تدل على ذم أبي بكر، قوله تبارك وتعالى:{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا}[التوبة/40] يريد بذلك نبيه عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، ولم يقل: فأنزل الله سكينته عليهما كما سماهما {اثْنَيْنِ} فيجعلهما شريكين في السكينة كما أشرك بينهما في الاسمين، وكما أشرك بين المؤمنين في السكينة مع رسوله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وأشركهم في السكينة مع رسوله، وأفرد رسوله بالسكينة في الغار، ولم يسم معه أحداً.
وقد علمت الأُمَّة أن علي بن أبي طالب ثبت معه بحُنين ولم يزل عنه، وأنه شريك في السكينة والنفر الذين وقفوا معه.
[حديث سد الأبواب]
وأما قولهم: إن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سدَّ أبواب أصحابه وفتح باب أبي بكر. فهذه دعوى منهم، ومن ادعى دعوى بلا برهان ولا دليل لم يجز ذلك له، ولو كان ذلك لما خفِي على الأُمَّة باب أبي بكر في المسجد.
فما حجتهم على من خالفهم فاحتج بالحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر أن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((سدوا هذه الأبواب الشارعة إلا باب علي)).
فعُوتب النبي في ذلك فقال:((ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه؛ ولكن الله أمرني بذلك))، يدل ذلك على أن لعليٍّ معه منزلاً في المسجد.(1/120)