فآدم عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ خير من المهاجرين والأنصار، مع أنه تبارك وتعالى قد أخبر بعصيانهم لربِّ العالمين؛ إذ يقول:{[وَلَقَدْ] صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ }[آل عمران/152] ولم يقل:(وأطعتم).
فإن أنكرتم هذا فحوِّلُوه من المصاحف وصيِّرُوه (وأطعتم).
ثم أخبر بعد العصيان فقال:{مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران/152] - إلى [قوله]:{مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ}[آل عمران/154] ؛ فأخبر تبارك وتعالى بعصيانهم وتوليهم عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وبأنهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، وأنهم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لرسول الله.
فقل للخوارج: هل وبَّخ الله تبارك وتعالى آدم إذ عصاه [بمثل ما] وبَّخ فيه القوم إذ عصوا رسوله؟.
فإذا كانوا قد عصوا رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ في حياته فكيف يُؤمن منهم العصيان بعد وفاته؟!.
فإن قالوا: لا يجوز عليهم الخطأ ببيعتهم؛ لأن فيمن بايعه - زعموا - أخيار أصحاب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؛ منهم: سلمان الفارسي وكان يقرأ التوراة والإنجيل والقرآن وينتظر خروج النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.(1/111)
ومنهم: أبو ذر الغفاري الذي قال فيه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق عند الله من أبي ذر)).
ومنهم: عمَّار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((خليلي في الله عمَّار بن ياسر))، و((ربّ ذي طمرين لا يُوْبَهَ له لو أقسم على الله لأبر قسمه)).
ومنهم: أبو عبيدة بن الجراح الذي قال فيه رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ:((أبو عبيدة أمين هذه الأُمَّة)).
ومنهم: طلحة بن عبيد الله، والزبير. ولم يذكروا لهما فضيلة لعلَّة بينهم، ونحن مجيبوهم على هذا إن شاء الله تعالى.
(الجواب): فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما حجتهم على من خالفهم فقال: أخطأ القوم جميعاً؛ إذ ولَّوا رجلاً لم يأمنه رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على أن يبلّغ عنه سورة من كتاب الله يقرأها على الناس يوم الحج الأكبر حتى أرسل خلفه علي بن أبي طالب فأخذها منه، وتركوا أبا عبيدة بن الجرَّاح الذي - زعموا - أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:((أبو عبيدة أمين هذه الأُمَّة))؟!
فما عذرهم عند الله عَزَّ وَجَلَّ إذ تركوا الأمين واستخلفوا غير الأمين؟
وما حجتهم على من خالفهم فقال: أخطأ القوم إذ تركوا رجلاً كان يقرأ القرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وولوا رجلاً لم يكن يقرأ القرآن، ولم يحفظه، ولم يؤلفه إلاَّ من أفواه الرجال وشهادة الشهود؟(1/112)
وما حجتهم على من خالفهم فقال: أخطأ القوم إذ ولَّوا رجلاً قال:(وليتكم ولست بخيركم) أنه يقول بما لم يعلم، وتركوا أبا ذر الذي قال فيه النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق عند الله من أبي ذر))؟
وما حجتهم على من خالفهم فقال: أخطأ القوم إذ ولَّوا رجلاً كان يدعو إلى بيعة من كانت بيعته فلتة وقى الله المسلمين شرها، وتركوا عمَّار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ:((موعدكم آل ياسر الجَنَّة))، و((مالهم ولعمَّار يدعوهم إلى الجَنَّة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار))؟
فمن أضعف حجة، أو أسخف رأيا، وأبين خطأ من قوم يحتجون ببيعة هؤلاء لرجل ليس له من الفضائل ما لهم، ولا يعدُّوا له من المناقب ما لهم؟! [مع] معرفتهم ومعرفة الخلق ممن يفهم الحديث أن هؤلاء الذين احتجت بهم الخوارج أنهم كانوا شيعة علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خاصة دون الخلق، والقائمين بحجته، والدَّاعين إلى بيعته وقت بيعة أبي بكر، وبعد ذلك.
وأنهم كانوا معه في منزله يوم بيعة أبي بكر حين كرهوا البيعة وسألوه الخروج عليهم، حتى خرج الزبير بسيفه وكره إلاَّ بَيْعَة علي حتى كُسِر سيفه.
وأمَّا سلمان الفارسي فلم يبايع فوجئت عنقه، وكان من قوله:(كرداد وتكرداد) أي علمتم ولم تعملوا.(1/113)
[الوصية في أحاديث الصَّحابة وكلام يدل على أن سلمان وأبا ذر وعمار بن ياسر من شيعة علي (ع)]
وروى في ذلك المخالف لنا ولكم من العامة عن أبي إسماعيل الكوفي عن زاذان عن سلمان الفارسي أنه قال في خطبته بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
(أمَّا بعد): أيُّها الناس؛ فإنِّي قد أوتيت علماً، ولو أنِّي أخبركم بكل ما أعلم لقالت طائفة منكم: مجنون. وقالت طائفة أخرى: رحم الله قاتل سلمان. ألا وإن لكم منايا تتبعها بلايا، ألا وإن عند علي بن أبي طالب علم المنايا والبلايا، وفصل الخطاب، وهو على سُنَّة هارون بن عمران حين قال له رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ:((أنت خليفتي ووصيي في أهلي، وأنت مني كهارون من موسَى)).
إنما وَاللهِ لو ولّيتموها عليّاً لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم فابشروا بالبلاء، واقنطوا من الرخاء، فقد نابذتكم على سواء، وانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء.
أما والله لو أعلم أنِّي أدفع ضيماً أو أعز لله ديناً لوضعت سيفي على عنقي ثم ضربت به قُدماً) مع كلام له كثير في خطبته.
وأمَّا أبو ذر فلم يزل يدعو إلى بيعة علي قبل بيعة أبي بكر وبعدها، ويذكر فضائل علي وأفاعيل القوم فيذمها حتى أعقبه ذلك أنه نفي إلى ربذة على صعبة من الإبل بغير وطأ حتى قرحَتا إليتاه فمات فيها رَحِمَهُ الله.
وكان من قوله ما رواه أبو خراسَان محمَّد بن عبد الله بن عيسى قال: حدثنا أحمد بن زيد عن أبيه عن زيد بن السكن - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - يرفع الحديث قال:(1/114)
رأيت أبا ذر الغفاري محتبساً بحلقة باب الكعبة وهو يقول: أيُّها الناس؛ من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة، أنا أبو ذر الغِفاري، سمعت رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وهو يقول:((أيُّها الناس؛ لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا، ولقيتم الله بغير ولاية علي بن أبي طالب لكبكم الله في النار على وجوهكم)).
وأمَّا عمَّار بن ياسر فلم يزل يدعو إلى بيعة علي بن أبي طالب، ولم يزل معه في حروبه حتى قُتل في عسكره داعياً إلى نصرته مع قول رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-:((عمَّار يدور مع الحق حيثما دار))، و((ما لهم ولعمَّار يدعوهم إلى الجَنَّة ويدعونه إلى النار، قاتِلُه وسالِبُه في النار)).
فأخبر عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أن عمَّار بن ياسر يدعو إلى الجَنَّة، وكان داعياً إلى علي، ولم يقل أحد من الأُمَّة إن عمَّاراً دعا إلى غير علي.
فكيف يجوز على هؤلاء النفر خيار أصحاب رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ مجتمع عليهم بالفضل لم يطعن عليهم أحد من الأمَّة بشيءٍ من ثلاث وسبعين فرقة؟!.
وأمَّا أبو عبيدة بن الجراح فإنَّا قد أوضحنا عليه من العلَّة في وسط كتابنا هذا ما فيه الكفاية لمن عقل.
[زَعْم الخوارج أن العباس أقرب لرسول الله (ص) من علي فهو أولى بالإمامة]
وزعمت الخوارج أن العبَّاس أقرب برسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ من علي، وهو أولى بالإمامة؛ لأن العَمَّ - زعموا - أقرب من ابن العم.(1/115)