[في عدم احتياج الأُمَّة لعلوم أبي بكر]
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: هل يستقيم في المعقول، أو يحتمل في المجهول لرجل يَسُوس أمر أُمَّة محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يحفظ غير هذه الأحاديث، على أن الأُمَّة تحتاج إلى معرفة ما افترض الله عليها من الصلاة وتحليلها وتحريمها، والقول في ركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها، وعلى ما فيها من سهو وغير ذلك وما يجب فيه؟
وإلى معرفة ما افترض الله عليها من الزكاة في أموالها من المال الصامت والحلي؟
وما يجب في الإبل والبقر والغنم، وأصناف الحبوب؟
وما يجب على المسافر فيه، وفي كم يجب القصر؟
وإلى معرفة الحج وطوافه، وسعيه، والقول عند جميع المواقف، ورمي الجمار، والذبح، والحلاق، وما يُقدِّم وما يُؤخِّر، ومن أخر ما تقدم، وجميع علل ذلك؟ وما يجب على صاحبه مما لا يجب؟
وإلى معرفة الطلاق، والإيلاء، والظهار، ومن طلَّق لغير العدة، ومن طلَّق واحدة، ونصف واحدة، وثلث واحدة، وربع واحدة؟ وما يجب في ذلك، وما يجوز منه مما لا يجوز؟
وإلى معرفة المواريث والفرائض والأحكام في الدِّيات، والقصاص، والأرش، والحدود، وغير ذلك؟ وما يجب فيه وما لا يجب؟(1/106)
فأي هذه الأحاديث بها يعلم حكم جميع ما تحتاج إليه الأُمَّة مما قد وصفنا حتى تستغني به الأُمَّة عمَّن سواه؟! على أن أبا حنيفة، وزفر، وابن أبي ليلى، ومحمَّد بن الحسن، وجميع من قال برأيه، وجميع النقالة للأحاديث ممن ينسب إلى الستة وغيرهم مثل سفيان الثوري، وسعيد القداح، وابن جريح، وعطاء، ومالك، وغيرهم، قد وضعوا من الأحاديث فيما نزل وفيما لم ينزل من الجوامع وغيرها مما لا يحيط به علم، ولا تشتمل عليه بصيرة بصير.
فإن كان يستقيم في المعقول أن يستحق الخِلافة أقل الناس علماً وأقلهم رواية عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- للعلم جاز أن يكون عالم حديث واحد أحسن استحقاقاً للخِلافة من عالم حديثين، وعالم حديثين أحق من عالم ثلاثة، وعالم ثلاثة أحق من عالم أربعة، وهذا مما لا تحتمله العقول..
غير أن الذي تشهد عليه العقول وتستقيم عليه الأذهان عند جميع الخلق موافقهم ومخالفهم: أن عالم مائة حديث أحق وأولى بالخِلافة من عالم عشرة أحاديث، وعالم ألف حديث أحق وأولى من عالم مائة حديث، وعالم العلم كله حلاله وحرامه، وعلم ما يحتاج إليه الخلق مما قد نزل وما هو نازل تشهد له الأُمَّة بأنه كان يدَّعي ذلك أحق وأولى بالخلافة؛ لأن هذا لا تنكره القلوب؛ لأن الأمَّة نقلت عن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، وسُئِل من يَؤُم القوم إذا اجتمعوا؟
فقال:((أقرأهم لكتاب الله)).
قال: فإن كانوا في القراءة سواء؟ ((فأفقههم في الدين)).
قال: فإن كانوا في الفقه سواء؟
قال:((فأعلمهم بالسُّنة)).
قال: فإن كانوا في [السنَّة] سواء؟ ((فأقدمهم هجرة)) .(1/107)
[مسألة حول حديث : ((أرأفُ أمتي بأمتي أبوبكر))...]
(مسألةٌ) فإن قالوا: فإن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال:((أرأف أمَّتي بأمَّتي أبو بكر، وأقوى أمَّتي على أمَّتي عمر، وأقضاهم عليٌّ، وأفرضهم زيدٌ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ومن أحب أن يقرأ القرآن غضاً جديداً فليقرأه بقراءة [ابن أم عبد])) .
(الجواب) فقل للخوارج وغيرهم: نحن نجد الأُمَّة تحتاج إلى القضاء وإلى الفرائض، وإلى معرفة الحلال والحرام، والقرآن، وهذا جميع الدين.
فهي تحتاج إلى علي [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]في القضاء، وإلى زيد في الفرائض، وإلى معاذ في الحلال والحرام، وإلى [ابن أم عبد] في القرآن، ولا نجد الأمَّة تحتاج إلى أبي بكر ولا عمر في شيءٍ من أمور الدين أكثر من الرأفة والقوة، وهما أقل شيء عائدة على الخلق.
فأخبرونا عن حاجة الخلق إليهما في دين الله ما هو؟! فإن الذي ذكرنا لا غِنى بالخلق عنه.
فإن قالوا: فإن زيداً أولى بالخلافة من علي؛ لأن الخلق يحتاجون إليه للفرائض، وفيها مواريثهم.
ومعاذ أولى بالخلافة من علي؛ لأن الخلق يحتاجون إليه لمعرفة الحلال والحرام، وفي معرفتهما طلب ثواب الله [تعالى]، والخوف لعقاب الله.
[وابن أم عبد] أولى بالخلافة من علي لمعرفة القرآن؛ لأن فيه الأمر والنهي، وما يحتاج الخلق إليه؟!.(1/108)
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: هذان رجلان قد سقطا عن الخلافة لغنى الخلق عنهما بإقراركم، وحاجة الخلق إلى هؤلاء [للذي فيهم]، ونحن مناظروكم فيهم وفي علي بن أبي طالب ليعلم [أيهم] أولى بالخلافة..
قد أقررتم أن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال:((أقضاكم علي)) ، ولا اختلاف بين الأُمَّة أن القاضي لا يكون قاضياً إلاّ وهو عالم بالحلال والحرام، فمتى اختلف اثنان في حلال وَحَرام قَضَى بينهما في تلك الفريضة.
ولا يكون قاضياً إلاّ وهو حافظ لكتاب الله، فمتى اختلف اثنان في شيءٍ من كتاب الله قضى بينهما في ذلك، فإن لم يكن عالماً بهذا كله وإلا فبماذا يقضي؟!
وقد نراه انتظم هذه الأشياء وشرَّكهم فيها ولم يشرِّكوه في القضاء؛ لأن القاضي هو الحاكم.
وقد أمر الله الخلق أن ينقادوا إلى الحاكم الذي قد جمع له هذه الأشياء وهو قوله تبارك وتعالى:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء/65] .
وقال:{[فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ] بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ}[المائدة/48] ، و{بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}[النساء/105] ، وقال:{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس/35] ؛ فأخبر الله تبارك وتعالى أنهم لا يؤمنون حتى يُحكِّموا رسوله فيما شجر بينهم.(1/109)
ثم قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء/59] ؛ فأخبر أن طاعة ولي الأمر طاعة رسوله، وطاعة رسوله طاعة الله، والحاكم الله ورسوله وولي الأمر، يقول الله عَزَّ وَجَلَّ:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء/59] .
[الجواب على من قال: إن الشيعة كفَّرت أصحاب رسول الله(ص)]
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: إن الشيعة كفَّرت أصحاب رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ.
وزعموا أنهم عصوا الله ورسوله إذ أمرهم بولاية علي فلم يطيعوه.
وزعموا أنه لو أمرهم لأطاعوه وما عصوه؛ لأنهم معصومون ، ولا يقع عليهم الخطأ ولا العصيان لما قد أنزل الله فيهم.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: ما الذي أنكرتم من قول من قال: إن المهاجرين والأنصار أخطؤوا وعصوا ولم ينكروا قول الله تبارك وتعالى في أنبيائه ورسله، فأخبر بخطئهم وعصيانهم في كتابه المنزل على نبيه المرسل؛ منهم صفوة الله من خلقه؛ خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جَنَّته، وأسجد له ملائكته، أمره ألا يقرب الشجرة فعصاه فأخرجه من جواره، ونوَّه به بعصيانه [لربِّ العالمين] إياه فقال فيه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}[طه/121] .(1/110)