وقد حذّره الله القتل فأمره بالهرب إلى الغار، وذلك ما روى حفص بن عمر عن وكيع بن الجراح، عن ربيع بن صبيح عن عَنبسة الحداد عن مكحول:
عن ابن عباس قال: لما أجمع المشركون من قريش على قتل رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ اجتمعوا في دار بمكَّة يقال لها دار الندوة، فأجمعوا أمرهم على قتله.
[فـ]ـنزل عليه جبريل عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ فقال له :(يا محمَّد؛ إن الله يقرئك السلام ويقول لك: إن المشركين قد ائتمروا بقتلك فاخرج من مكَّة فإن فيها قتلك إلا ما شاء الله). فهرب إلى الغار - عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ - فاختفى فيه.
فقل للخوارج: لم جوَّزتُم لرسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ الإمساك عن المشركين فلم يقاتلهم وقد علم أنهم لا يقتلونه، ولم تجوِّزوا لعلي الإمساك عن أبي بكر وقد علم أنه لا يقتله؟
فإن قالوا: إن الله أمره بذلك.
فقل: وإن رسول الله أمر علياً بذلك، مع أن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب/21] ، فأي شيءٍ أحسن عند الله ممَّن اقتدى برسوله واتبع سنته؟
ومن ذلك ما روى طلحة بن عبيد الله، وكان داهية قريش؛ إذ قال لعلي بن أبي طالب: إنِّي سمعتك تقول يوم بويع أخو تيم تعدد فضائلك ومناقبك، فقام عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فشهدا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قال:((إنَّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا فلم يكن ليجمع لنا الخلافة مع النبوة)) .(1/96)
فقال علي بن أبي طالب: يا طلحة بن عبيد الله؛ قد قلت فاسمع: إنَّا والله لئن كان رسول الله صلى الله عليه وعلى أهل بيته قال هذا القول ما خلق الله قوماً شرًّا منكم يا أصحاب الشورى؛ إذ أدخلتموني في أمر زعمتم أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قال ليس لنا فيه شيءٌ.
ولئن كانا شهدا على رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- زوراً لقد خاب وأثم من قال الزور، فأيهما تقول؟
فما رد عليه حرفاً.
ومن ذلك: قول عمر بن الخطاب وشهادته على أبي بكر يوم وفاته وشهادته لعلي يوم الشورى دليل على أن بيعة أبي بكر كانت عنده خطأ وأن الحق في بيعة علي.
فأمَّا شهادته على أبي بكر فقوله عند وفاته إذْ وُلِّي الأمر فقام خطيباً فقال: أيها الناس؛ إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
وشهادته لعلي يوم الشورى: أما إنكم إن تولوها أصلع بني هاشم يحملكم على المحجة البيضاء ولو بالسيف - يعني علياً -.
وقوله حين أُغمي عليه: أما إنِّي لو أردت أن أولي عليكم رجلاً هو أحرى أن يحملكم على الحق ويهديكم الصراط المستقيم - وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب - غير أني قد رأيت في عشيتي هذه رؤيا والله بالغ أمره، ورأيت كأنِّي غرست جَنَّة فدخلها رجل فجعل يقطف كل غَضّة ويانعة وهو يجعلها تحت إسته؛ فأجعلها شورى.
ومن ذلك: أن عليّاً كان يدعي أنه وصي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وإنكار أبي بكر أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف يدل على قوليهما جميعاً.(1/97)
[فضائله(ع)]
[علمه عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]
ورواية العامة من الخوارج وغيرهم من المخالف والموافق قول أبي بكر: اللهمَّ إنِّي أقول في الجد برأيي فإن أخطأتُ فمن نفسي وإن أصبتُ فبتوفيقك.
وقوله: وليتكم ولست بخيركم.
وقوله: أقيلوني بيعتي.
فهذا سواءٌ ومن يقول: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لقد علّمني رسول الله كل شيءٍ، حتى لقد علّمني أرش الخدش.
وقول أبي بكر: وليتكم ولست بخيركم، وقوله: أقيلوني بيعتي، فقالوا: لا نقيلك ولا نستقيلك.
وقوله: إن لي شيطاناً يعتريني؛ فإذا أنا مِلْت فقوّموني، وإذا ما رأيتموني مغضباً فجنبوني لا أميل بأشعاركم وأبشاركم.
فأخبر أنه يقول ما لا يعلم، وأنه ليس بخيركم، وأن له شيطاناً يعتريه.
وقال الله تبارك وتعالى:{بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}[القيامة/14] ، وقد قال في نفسه ما هو به أعلم مِمَّن شهد له عليها.
وأمَّا قول علي عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ بشهادة الخلق له برواية من يشير إليه الخوارج وغيرهم بالثقة من جهة المخالف لنا ولهم قول عليٍّ على منبر الكوفة: والله لو تبعتموني ما عال عائل الله، ولا طاش سهم من كتاب الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله، ولأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم.
وقوله في غير موطن: لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم حتى يزهر، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى يزهر، وبين أهل الزبور بالزبور حتى يزهر، وبين أهل الفرقان بالفرقان حتى يزهر.(1/98)
وقوله في غير موطن: سلوني قبل أن تفقدوني فإن بين الجوانح مني علماً جمًّا غرني به رسول الله غراً؛ فوالله لأَنا بطرق السماء أعلم من العالم منكم بطرق الأرض، وما نزلت آية من كتاب الله في ليل ولا نهار، ولا سهل ولا جبل إلا وأنا أعلم فيما أنزلت وفيما نزلت.
وسلوني قبل أن تفقدوني؛ فوالله ما من فتنة يهلك فيها مائة وينجو فيها مائة إلا نبأتكم بقائدها، وسائقها، وناعقها؛ إلى يوم القيامة.
وقول النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ فيه:((أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها)) .
وقوله للخوارج خاصة والمسلمون حضور: تجدون من لو دفعت إليه هذا الأمر الذي تطلبونه بغير قتال أكان يحسن يحكم بكتاب الله؟
قالوا: لا.
قال: أفيكم من لو دفعت هذا الأمر إليه من غير قتال أيضع أموال الله في عباد الله حتى لا يضيع منها درهماً إلا حيث أمر الله به؟
قالوا: لا.
قال: فمن أعجب من قوم يطلبون أمراً بقتال إن دُفع إليهم بغير قتال لم يحسنوه؟
قالوا: فنسألك بالله أعندك علم ممَّا سألتنا عنه؟
قال لهم: نعم؛ وما سألتكم عن شيءٍ إلا وقد علّمنيه رسول الله صلى الله عليه وآله.
هذا روايتكم عنهما جميعاً، وفيهما ولهما بإقرارهما على أنفسهما، والله جل ثناؤه يقول:{أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[يونس/35] ؛ فالهادي إلى الحق أحق أن يتبع.(1/99)
[مجموع ما رواه أبو بكر واحداً وعشرين حديثاً]
وقد روت العامة أن جميع الأحاديث المسندات التي رويت عن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- روى أبو بكر من ذلك إحدى وعشرين حديثاً قد أثبتناها في كتابنا هذا بإسنادها؛ منها:
[1-] حديث عكرمة عن ابن عبَّاس قال أبو بكر: يا رسول الله؛ إنَّا إذا كنا في بعض ليل سمعنا وجبة، فإذا أصبحنا أبصرنا بقولنا مقدوراً؟
فقال:((ذلك شيطان يكيدكم، فإذا أنت سمعته فقل: بسم الله أجب رسول الله. فإنك ستلزمه)).
فلزمته، فقال: دعني فإنِّي لا أعود.
فتركته، وأعلمت رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بذلك فقال:((كذلك يا أبا بكر سيعود)).
قال أبو بكر: فلما أن كان في بعض الليل سمعنا وجبة فقلت: بسم الله أجب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فلزمته، فلما أقبلت أريد به رسول الله حلف لي أنه لا يعود، فتركته.
فلما أصبح غدوت إلى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فأخبرته بما حلف لي أنه لا يعود، فقال:((كذلك يا أبا بكر إنه سيعود، إذا أخذته فلا تقبل منه يميناً)).
قال أبو بكر: فلما كان في بعض الليل سمعت وجبة فقلت: بسم الله أجب رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فلزمته أريد به رسول الله عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ، فلما رأى ذلك قال: دعني؛ فأنا أخبرك بالذي يمنعنا من دخول بيوتكم: هذه الآية:{إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}[الأعراف/54] إلى قوله:{[تَبَارَكَ] اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف/54] .(1/100)