قال أبو عبيدة لعليّ: يا ابن عم؛ إنّك حدث السِّن وهؤلاء مشيخة قومك، وليس لك مثل معرفتهم وتجربتهم للأمور، وإنّي لأرى أبا بكر أقوى على هذا الأمر منك، وأشد احتمالاً، فارض وسلِّم فإنّك إن تعش ويطل بك العمر فإنّك بهذا الأمر خليق به حقيق في فضلك وسابقتك وقرابتك.
فقال علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا معشر المهاجرين؛ الله الله! لا تُخرجوا سلطان محمِّد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم، وتدافعوا أهله عن مقامه في الناس؛ فوالله لنحن أحقُّ بهذا الأمر منكم ما كان مِنّا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، القائم بسنّته، المضطلع بأمر الرعيّة؛ فوالله إنّه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا من الله بعداً.
وفي رواية أخرى عن عبد الله بن يعقوب عن أبي الهيثم بن لهيعة وغيره - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم -:
أنَّ عليّ بن أبي طالب - رَحِمَةُ اللهُ عَلَيْهِ - لزم بيته وكره الخروج عليهم ومعه المقداد وسلمان والزبير، فجاء عمر بن الخطّاب بالحطب والنار ليحرق عليهم أو يخرجوا يبايعوا لأبي بكر.
فلمّا خافوا ذلك خرج عليّ ومن معه فذهبوا بهم إلى أبي بكر فبايعوا.
وزعمت الخوارج ومن قال بمقالتهم: أنّ عليّاً - رَحِمَةُ اللهُ عَلَيْهِ - بايع طائعاً غير مستكره.
وفي رواية أخرى: أن عليّاً [عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ] لم يبايع إلا بعد ما توفيّت فاطمة عَلَيْهَا الْسَّلاَمُ بستة أشهر، وذلك لما كان من أهل اليمامة الذي كان من ردتهم فيما زعموا فكره الناس الخروج إذ لم يبايع علي لأبي بكر، ولم يخرج في جهادهم.(1/91)


فلمّا خشي الناس اضطراب الإِسلام مشى عثمان والمهاجرون والأنصار إلى علي فناشدوه الله والإِسلام فبايع على هذا الباب.
[رواية السلام على علي (ع) بإمرة المؤمنين]
وحديث عبد الله بن بريدة قال: جمع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- سبعة رهط وأنا ثامنهم فقال:((أنتم شهداء الله في الأرض أَدَّيتُم أم كتمتم)).
ثم قال:((قم يا أبا بكر فسلم على علي بإمرة المؤمنين)) .
فقال أبو بكر: أعن أمر لله وأمر رسوله؟
قال:((نعم؛ هو الذي أمرني)).
قال علي: اللَّهُمَّ اشهد.
ثم أمر عمر بن الخطاب فقال مثل مقالة أبي بكر: أعن أمر الله وأمر رسوله؟
قال:((نعم)).
فأتاه فسلَّم عليه، فقال علي: اللَّهُمَّ اشهد.
ثم قال للمقداد بن الأسود. فقال: فلم يقل مثل مقالة الأولين فأتاه - رَحِمَهُ اللهُ - فسلَّم عليه.
ثم قال لأبي ذَرّ فقام فسلَّم عليه، ثم قال لسلمان فقام فسلَّم عليه، ثم قال لحذيفة فقام فسلَّم عليه.
ثم أمرني فقمت فسلَّمت عليه، وأنا أصغر القوم، وأنا ثامنهم.
فلما قُبِضَ رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وأنا غائب، فلما قدمت وجدت أبا بكر قد استُخلف فدخلت عليه فقلت: يا أبا بكر؛ أما تحفظ تسليمنا على علي بن أبي طالب بأمر رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ بإمرة المؤمنين؟
قال: بلى. فقلت: ما لك فعلت الذي فعلت؟!.
قال: إن الله يحدث الأمر بعد الأمر، ولم يكن ليجمع الخلافة والنبوة في أهل البيت.
وروى عباد بن عبد الله عن عمه المؤَمَّل بن إسماعيل وكانت العامة تسمية سيف السنة - وهؤلاء المخالفون لنا ولكم - عن رجل قال:(1/92)


دخلنا المدينة فدخلت مسجد رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فوجدت حَلَقَةً فيها أبي بن كعب حوله المهاجرون والأنصار يسألون عن الحلال والحرام فسألته فلم يجبني، ثم أعدت عليه فلم يجبني، ثم أعدت عليه فلم يجبني.
ثم قلت: سبحان الله! يا أصحاب محمَّد؛ نسألكم فلا تجيبون، فلست أدري أتحسدونا أم تحقرونا؟
فقال القوم: سبحان الله! أتقول هذا لسيد المسلمين أبي بن كعب؟
فقال لهم أُبَي: دعوا الرجل، فلئن سَلِمت إلى الجمعة لأقومنَّ مقاماً، ثم لأقولنَّ مقالاً لا أبالي أقُتِلت فيه أم استحييت.
هلك أصحاب العقيدة، هلك أصحاب العقيدة، أما إنِّي لا أبكي على ما ضيعوا من أمر دينهم ولكن أبكي على ما ضيعوا من أمر دين محمَّد.
قال الرجل: فلما كان يوم الخميس غدوت إلى المدينة لأشهد المقام وأسمع المقال، فوجدت أهل المدينة بين حزين وباك، فقلت لرجل بجنبي: هل حدث بالمدينة حدث؟
فقال لي: كأنك غريب؟
فقلت له: أجل.
قال: هلك سيد المسلمين أُبَي بن كعب.
فقلت في نفسي: سُتِر على الرجل.
فقل للخوارج ومن قال بمقالتهم: ما كان أُبَي يخاف في ذلك الوقت بقتله إن أقام المقام، أو قال المقال؛ وإنما كان في عصر أبي بكر وفيه هلك.
وسلهم عن أصحاب العقيدة، ومن عنا أنه لا يبكي على ما ضيعوا من أمر دينهم، ولكنه يبكي على ما ضيعوا من أمر دين محمَّد صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلَّم.(1/93)


ويروون ما ذكرنا من رواية العامة يدل على كراهية علي - رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ -لمبايعتهم، والغزو معهم، والدخول في شيءٍ من أمورهم، وهجران فاطمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا لأبي بكر، وقُبران عليٍّ إيَّاها ليلاً، وتمريضها سرًّا، وإخفاء قبرها - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - عليهم لو فهم وعقل.
[امتناعه عليه السلام عن مجاهدة الخلفاء الثلاثة]
وقد روى شريك بن عبد الله قاضي البصرة قال: قال الأشعث بن قيس لعلي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: إنك لم تقم فينا مقاماً قط منذ وليت هذا الأمر إلا وأنت تقول: والله ما زلت مظلوماً منذ قبض الله نبيه عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ.
فما منعك أن تضرب بسيفك دون ظلامتك؟!.
قال: يا أشعث! ما يمنعني من ذلك ما منع هارون إذ قال لموسى:{[يَبْنَؤُمَّ] لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}[طه/94] ، وكان قول موسى لهارون: إن ضلَّ قومي واتبعوا غيرك فجاهدهم ونابذهم، فإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك، واحقن دمك.
فكففت يدي وحقنت دمي أن يقول لي أخي: ألم أقل لك: إنك إن لم تجد أعواناً فاكفف يدك، واحقن دمك ؟ ولو أمرني بمجاهدتهم وحدي لجاهدتهم وحدي.
وقد روى أهل العلم من غير جهة أن هارون كان في ستمائة ألف، فأخبر الله بعذره في كتابه إذ يقول:{إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}[الأعراف/150] .(1/94)


فإن قالت الخوارج: وكيف يخاف علي أن يقتله أبو بكر أو غيره من المهاجرين والأنصار وقد زعمتم أن رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أخبر أن عبد الرحمن بن ملجم يقتله؟ فزعمتم أن علياً كان يقول إذا نظر إليه في عسكره أو جاء لأخذ عطائه:
أريد حياته ويريد قتلي .... عذيرك من خليلك من مراد
أما والله لتخضبنَّ هذه من هذه، وأشار إلى لحيته ورأسه.
فلما كان في الليلة التي زعمتم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أخبره أنه يقتل فيها بات ليلته يصلي إلى أن كان عند طلوع الفجر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وهو في ذلك يختلف ويتمثل ويقول - رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانهُ:
أشدد حيازيمك للموت .... فإن الموت لاقيك
ولا تجزع من الموت .... إذا حلّ بواديك
قالت له ابنته أم كلثوم: يا أبة؛ لطال سهرك ليلتك هذه وتمثلك بهذا البيت؟
فقال لها رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا بنية؛ هذه آخر ليلة من الدنيا، وأول ليلة من الآخرة.
فخرج عند طلوع الفجر فلقيه ابن ملجم - عليه لعنة الله وسخطه - فقتله.
فقل للخوارج: أليس قول النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لعليّ:((أكفف يدك واحقن دمك)) لحجة على علي؟
ولا يوقع عليه القتل؛ إذ كان عليٌّ قد علم أن ابن ملجم يقتله، فقد كان النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ قد علم أن المشركين لا يقتلونه؛ لأن الله تبارك وتعالى قد أخبره أنه ميِّت وأنهم ميتون، ولم يقل: إنك مقتول.(1/95)

19 / 42
ع
En
A+
A-