فقالا: لا والله! ما نتولى عليك هذا الأمر، أنت خليفة رسول الله؛ أبسط يدك نبايعك.
فلما ذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحُباب بن المنذر: يا بشير؛ عقتك عقوق، وما اضطرك إلى ما صنعت! أنفست على ابن عمِّك بالأمارة - يعني سعد بن عبادة -؟
ثم قام الحباب بن المنذر إلى سيفه فأخذ بقائمة وبادره إليه، فأخذوه منه، فجعل يضربهم بثوبه في وجوههم حتى فرغوا.
وأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر وكادوا يطأون سعداً وهو مريض، وقال ناس من أصحاب سعد: لا تطأوه.
فقال عمر: اقتلوا سعداً قاتله الله، إنه صاحب فتنة.
ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأ بطنك حتى أنثر حشوتك.
فقال سعد: أما والله لو أن لي ما أقوى به علي القيام لسمعتم مني في أقطارها وسككها زئيراً يزحزحك وأصحابك. احملوني من هذا المكان.
فحملوه وأدخلوه داره، ثم سألوه بعد ذلك البيعة، فكان سعد لا يُصلِّي بصلاتهم، ولا يجتمع معهم، ولا يقضي بقضائهم؛ حتى هلك أبو بكر وولي عمر.
فلقيه عمر في بعض طريق المدينة وهو على فَرَس وعمر على بَعير فقال: إيهاً يا سعد!.
فقال: إيهاً يا عمر!؟
فقال: أنت صاحب ما أنت صاحبه؟
قال: نعم! ذلك.
قال: أما والله ما جاورني بها جار قط أبغض إليّ جواراً منك.
قال عمر: إنه من كره جوار جاره تحول عنه.
قال: إذاً غيِّر فبشراً لك إنّي لأرجوا أن أخليها إلى من هو أحب إليّ منك ومن أصحابك.
وولَّى، فما لبث إلا يسيراً حتى خرج إلى الشام في أول خلافة عمر فمات بحوران ولم يبايع.(1/86)


وقال في ذلك الحباب بن المنذر:
سعى ابن الحضير في الفساد لحاجةٍ .... وأسرع منه في الفساد بشيرُ
يظنان أنَّا قد أتينا عظيمةً .... وخطبهما فيما يراد صغيرُ
وما صغرا إلا بما كان منهما .... وخطبهما لولا الفساد كبيرُ
ولكنه من لا يراقب قومه .... قليلٌ ذليلٌ فاعلما وحقيرُ
فيا ابن حضير وابن سعد كلاكما .... بتلك التي تعني الرجال خبيرُ
ألم تعلما لله درّ أبيكما .... وما الناس إلا أكمَهٌ وبصيرُ
بِأنَّا وأعداء النبيء كأَننا .... أسود لها في الغابتين زئيرُ
نصرنا وآوينا النبي وما له .... سوانا من أهل المكّتين نصيرُ
فديناه بالآباء بعد دمائِنا .... وأموالنا والمشركون حضورُ
وكنا له في كل أمر يريده .... سِهاماً حداداً ضمّهنَّ جفيرُ
فكان عظيماً أنني قلت: منهم .... أميرٌ ومنا يا بشير أميرُ

وقال حسان بن ثابت:
لا تنكرنّ قريش فضل صاحبنا .... سعدٍ فما في مقالي اليوم من أودِ
قالت قريش لنا السلطان دونكم .... لا تطمعن بذاك [القول] من أحدِ
قلنا لهم ثوروا حقاً فنتبعه .... لسنا نريد سواه آخر الأبدِ
إن كان عندكم عهد به لكم .... من النبي لكم قلنا من الفندِ
أو لا يكن عندكم عهد فإن له .... من أهل بدر وأهل الشعب من أحدِ
نحن الذين ضربنا الناس عن عرَضٍ .... حتى استقاموا وكانوا بيضة البلدِ
في كل يوم لنا أمر نفوز بِه .... يُعطي الإله عليه جَنَّة الخلدِ
لستم بأولى به منا لأن لنا .... وسط المدينة فضل العِزّ والعددِ
وإننا يوم بعنا الله أنفسنا .... لم نبقِ خوفاً على مال ولا ولدِ
والناس حرب لنا في الله كلهم .... مثل الثعالب تخشى غابة الأسدِ(1/87)


وقال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
بني هاشم لا تطمع الناس فيكم .... ولا سيما تيم بن مرَّة أو عدي
وما الأمر إلا فيكم وإليكم .... وليس لها إلا أبو حسنٍ عليّ
أبا حسنٍ فاشدد لها كفَّ حازمٍ .... فإنّك للأمر الذي يرتجى ملي

قال: واجتمعت بنوا هاشم إلى علي بن أبي طالب - كَرَّمَ اللهُ وَجَهَهُ - ومعهم الزبير بن العوام، والعاص بن الربيع زوج ابنة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، والمقداد بن عمرو حليف بني زهرة، واجتمعت بنو زهرة إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن وقاص، واجتمعت بنو أميّة إلى عثمان بن عفان، وكانوا جميعاً في المسجد إلا بني هاشم.
فلما أقبل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح قال لهم عمر: ما لي أراكم حلقاً؟ قوموا فبايعوا أبابكر فقد بايع الناس له.
فقام عثمان وبنو أميّة فبايعوا، وقام عبد الرحمن وسعد ومن معهما فبايعوا.
وقام علي بن أبي طالب ومن معه فدخلوا بيت أنس بن مالك، فأرسل أبو بكر إليهم عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم فقالا لهم: قوموا فبايعوا أبا بكر.
فكرهوا، فخرج الزبير بسيفه فقال عمر: عليكم الكلب. فوثب إليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار، وانطلقوا به وبني هاشم فبايعوا، وانطلقوا بعليّ بن أبي طالب وهو يقول:(أنا عبد الله وأخو رسول الله). حتى انتهوا إلى أبي بكر فقالوا: بايع.(1/88)


فقال: أنا أحق بهذا الأمر؛ لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتُم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بنا وبقرابتنا، وتأخذونه منا غصباً!؟
وقال العباس وعلي لأبي بكر وللأنصار: ألستم زعمتم (للأنصار) أنكم أولى بهذا الأمر لمكان محمَّد عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ، وأعطوكم المقادة، وسلَّمُوا لكم الأمر؟
فنحن محتجون عليكم بما احتججتم به على الأنصار: نحن أولى برسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ حيّاً وميتاً، فانصفوا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم، واعرفوا لنا ما عرفته الأنصار لكم، وإلا فبوءُوا بالظلم وأنتم تعلمون.
فقال عمر لعلي: أيّها الرجل؛ لست بمتروك أو تبايع.
فقال له علي: احْلِب حلباً لك شطره، اشدد له اليوم ليرده عليك غداً، والله لا أقبل قولك ولا أبايع له.
فقل للخوارج: أليس قد رد أبو بكر على عمر حين استخلفه بعد أن كره ذلك المهاجرون والأنصار عليه وقالوا: وليت علينا فضاً غليظ القلب ماذا أنت قائل لربّك إذا لقيته؟
قال أبو بكر: أبالله تخوفوني؟ أقول له: وليت عليهم خير أهلك.
فقل للخوارج: كيف يكون خير أهل الله وقد عُلِمَ من جهله ما سنوضحه؟
من ذلك ما رواه ابن شهاب قال: حدّثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنّه لما توفي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قام عمر بن الخطّاب فقال:(1/89)


إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- توفي، وإنّ رسول الله ما توفي، والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم عاد إليهم بعد أن قيل: قُتل.
والله ليرجعنّ رسول الله كما رجع موسى فليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله مات.
وفي غير رواية ابن شهاب، قال: فقال له أبو بكر: يا أبا حفص؛ بلى قد مات رسول الله. أما سمعت الله يقول:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر/30] ؟
قال: وإن هذا لفي كتاب الله؟!.
قال: فضرب الأرض بدرَّته. قال: ومات والله رسول الله.
فقل للخوارج ولمن قال بمقالتهم: أيكون خير أهل الله من جهل أن رسول الله يموت ومن لم يعلم ما في كتاب الله؟
وقل لهم: ألم يشكر عمر لأبي عبيدة مؤازرته له ولأبي بكر وقيامه معهما يوم بيعة أبي بكر، حتّى كان من قول عمر يوم الشورى متلهفاً على أبي عبيدة بعد وفاته:
لو أدركت سالماً مولى أبي حذيفة وأبا عبيدة بن الجراح ما تخالجني فيهما الرأي.
يزعم أنه لم يخالجه الرأي في سالم، على أن سالماً لما كان لقيطاً لا يُعرف أبوه، ولا في أبي عبيدة لفضيلة كانت له ينال بها الخلافة. إنّ هذا لمن الأعاجيب بَيِّنٌ. وزعم أنّه يخالجه الرأي في علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ.
رجع الحديث [عن السقيفة]
قال أبو بكر [لعليّ]: فإن لم تبايعني فلا أكرهك.(1/90)

18 / 42
ع
En
A+
A-