فمثل مواقف علي لا تخفى على الأُمَّة إلا كما لم تخف مواقفه في بدر، وأحد، وحنين، وقريضة، والنظير، وسلع، وخيبر، والخندق، التي قد فهمتها الأُمَّة، وقيلت فيها الأشعار، وتواترت فيها الأخبار، ونقلها الرواة من جميع الأُمَّة مخالفها وموالفها نصدِّق قولكم على فعلكم.
وأمَّا قولكم إنه قال:(آخذ إذا أعطاني). فما حجتكم على من خالفكم فقال: قد كان لعلي في العطاء سهمان؛ سهم في القرابة، وسهم في الهجرة، ولسائر الخلق لأبي بكر فَمَنْ دونه لِكل سهم لا غير؟
فإن دفع أبو بكر حقاً هو له فليس لأبي بكر في ذلك الحُجَّة على عليٍّ في أخذه حقاً هو له؛ بل الحُجَّة لعليّ والمنَّة في ذلك على أبي بكر إذ قبل حقاً هو له منه؛ لئلا يبقى إصراً في عنقه.
وقولهم:(أجلد بين يديه الحدود). فما حجتهم على من خالفهم فقال: لم يقل أحدٌ من الأُمَّة أن علي بن أبي طالب عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ جلد بين يدي أبي بكر أحداً قط، ولا بين يدي عمر، ولا بين يدي عثمان إلا الوليد بن عقبة بي أبي معيط ابن عم عثمان وأخاه لأُمِّه، فإنه وقع عليه حدٌ لله عَزَّ وَجَلَّ كره عثمان إنفاذه، وتحاماه المهاجرون والأنصار، وكره أحد أن يضربه كراهية أن يسوء عثمان بذلك، فلما أمكن أمير المؤمنين ذلك رأى ألا يضيع حداً من حدود الله عند إمكانه، فأخذ السوط فضربه.
فقل للخوارج ولغيرهم من أشكالهم: فتخبروا من جلد علي بين يدي أحد منهم حتى نُصدِّق قولهم عليه.(1/81)
ولقد علمت الأُمَّة بأجمعها أن أبا بكر وعمر وعثمان قد استعملوا أقاربهم وغير أقاربهم على مواضع شتى مثل قنفذ بن خالة أبي بكر، وخالد بن الوليد، وأبي موسى الأشعري، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي سفيان بن الحارث، وعمرو بن العاص، ويعلى بن منية، وأبي سرحة بن أبي معيط، وغيرهم.
ولم يستعلموا علي بن أبي طالب ولا أحداً من أهل بيته، ولا استعانوا بهم في شيءٍ من أمورهم صغيراً ولا كبيراً.
وقد كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يشركه في جميع أموره، ويناجيه في أسراره، ويعده لكل شديدة ونازلة، ويبعثه في البعوث، ويوليه تهامة وغيرها، وأحق من استنَّ بسنة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- واقتدى بفعله من آمَن بالله ورسُله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}[الأحزاب/21] ، {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ [هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]}[الحديد/24، الممتحنة/6] .
وفي الحديث القائم المشهور عن النبي -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:((أيما رجل ولي من أمور المسلمين شيئاً فاستعمل عليهم رجلاً هو يعلم أن فيهم خيراً منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) .(1/82)
ولا خلاف بين الأُمَّة أن علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الله وقثم والفضل أبناء العباس، وسلمان الفارسي، وأبا ذرِّ الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعَمَّار بن ياسر؛ هؤلاء شيعة علي وخاصته أفضل ممن استعمل أبو بكر وعمر، فما معنى كراهيتهم لعلي وشيعته؟!.
وإن كان قد طلب ذلك منهم فكرهوا فما معنى كراهيتهم؟!.
ففي دون هذا دليل بمرض القلب.
[الدليل على أن علياً (ع) بايع كارهاً غير طائع]
فإن قال [قائل]: فما الدليل أن عليًّا بايع كارهاً غير طائع.
قلنا: الرواية المشهورة المجتمع عليها؛ من ذلك ما روى أبو بكر محمَّد بن الوليد عن ابن دأب - وهما علمان من أعلام العامة، وهما من المخالفين لنا ولكم -: أن علي بن أبي طالب حمل فاطمة ابنة رسول الله عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا (أَفْضَلُ) الْسَّلاَمُ، وقد رووا أنه أخرجها على حمار مخطوم بليف فسار بها ليلاً في مجالس الأنصار تطلب منهم النصرة لعليٍّ فكانوا يقولون: يا ابنة رسول الله - رَحِمَكِ اللهُ - سبقت بيعتنا لهذا الرجل، فلو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.
فقال علي: فكنت أدع رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ في بيته لم أجنه وأخرج أنازع الناس سلطانه؟!.
فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، وقد فعلوا ما الله حسيبهم فيه.
فقل للخوارج: ماذا طلبت فاطمة عَلَيْهَا الْسَّلاَمُ غير نقض بيعة أبي بكر.
وما روى أبو بكر محمَّد بن الوليد قال: لما اشتكت فاطمة عَلَيْهَا الْسَّلاَمُ شكواها التي توفيت فيها جاءها أبو بكر يعودها فاستأذن عليها فكرهت أن تأذن له.(1/83)
فأُخبر أن عليّاً عندها، فأرسل إليه يسأله أن يأمرها أن تأذن له فأذنت، فكلمها فأبت أن تكلمه، فسأل عليًّا أن يأمرها أن تكلمه فكلمته.
وفي رواية أخرى:
قال لها: أعوذ بالله من غضَب الله، ومن غضب رسول الله، وغضب ابنة رسوله؛ غضبانة فأرضي، أم عاتبة فأُعْتِب.
فقالت: ما أزيدك على السلام شيئاً.
فلما توفيت صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهَا حملها عليٌّ في أهل بيتها معه المقداد بن عمرو حليف بني زهرة فصلّوا عليها ليلاً - صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهَا - صلَّى عليها العبَّاس بن عبد المطلب.
فسل الخوارج: هذا فعل كاره أم فعل راض؟
السقيفة وبيعة أبي بكر
ومما روى أبو بكر بن الوليد عن ابن دأب قال: خرج العبّاس بن عبد المطلب على الناس قبل أن يُدفن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فوقف عليهم، هذا قبل بيعة أبي بكر، فقال: يا أبا بكر عندك عهد من رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أو أمر؟
قال: معاذ الله؛ لا والله.
فقال: وأنت يا ابن الخطاب؟!.
قال: لا والله.
قال: فهل عند أحد منكم عهد من رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ؟
قال الناس: لا.
قال: فاشهدوا أيها الناس. ثم دخل.
قال: واجتمعت الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة ودعت سعد بن عبادة، واجتمع المهاجرون يقولون: لنا الأمر دُونهم.
فخرج أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فلما تَنَشّر عمر للكلام دفعه أبو بكر وقال: على رسلك ستكفى إن شاء الله ثم قُل بعد كلامي ما بدا لك.(1/84)
قال: فتشهّد أبو بكر وأنصت الناس، فقال بعد كلام كثير: معاشر الأنصار؛ أنتم الذين آووا ونصروا ووازروا رسول الله صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وأنتم أنصار الله، وأنتم إخواننا في كتاب الله، وشركاؤنا في الدِّين وفيما كُنَّا فيه من الخير.
والله ما كنا في خير قط إلا وأنتم شركاؤنا فيه ، وأنتم أحبُّ الناس إلينا ، وأكرمهم علينا ، وأنتم أحق الناس بإرضائنا.
وأنتم المؤثرون على أنفسهم يوم الخصاصة، والله ما زلتم تؤثرون إخوانكم من المهاجرين قط.
وأنتم أحق الناس ألاَّ يكون انتقاض هذه الأُمَّة واختلافها على أيديكم، وأبعد الناس أن تحسدوا إخوانكم خيراً ساقه الله إليهم، وأنا أدعوكم إلى أبي عبيدة بن الجراح أو إلى عمر بن الخطاب فكلاهما رضيت لهذا الأمر، فكلاهما أراه لها أهلاً.
فقال عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح: ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك، أنت صاحب الغار مع رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، ثاني اثنين.
فأطريا في مدح أبي بكر، فقالت الأنصار بعد كلام كثير واختلاف من القول: نحن نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم، فلو جعلتم اليوم رجلاً منكم بايعناه اليوم ورضيناه على أنه إذا هلك اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا هلك اخترنا رجلاً من المهاجرين أبداً ما بقيت هذه الأُمَّة.
فكان من قول عمر بن الخطاب: هيهات! لا يجتمع سيفان في غِمْدٍ.
فأطرأ المهاجرون في الدعاء إلى أبي بكر، فقالوا هذا: منا الأُمراء ومنكم الوزراء.
فقال أبو بكر: هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوه.(1/85)