وكذلك الجهاد وضعه الله عَزَّ وَجَلَّ عن الأعمى، والأعرج، والمريض، ولم يضع الله عَزَّ وَجَلَّ طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى عن أحد من هؤلاء.
وكذلك الصلوات الخمس لها مواقيت لا تجوز في غيرها، فإذا أدَّاها العبد في مواقيتها سقط عنه فرضها وصار خليًّا عن الفرض إلى مواقيتها الأخرى، وليس يخلو العبد عن طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى طرفة عين.
وكذلك الصوم له وقت؛ فإذا أدَّاها العبد في وقته سقط عنه الفرض وكان خلياً من فرضه إلى ذلك الوقت، وليس يخلو العبد من طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى طرفة عين.
وكذلك الزكاة لها وقت في رأس الحول، فإذا أدَّاها العبد سقط عنه الفرض وكان خلياً من فرضها إلى ذلك الوقت، وليس يخلو العبد عن طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى طرفة عين.
وكذلك الجهاد قد عَطَّلَه كل هذا الخلق وتركوه، وتركه الله عَزَّ وَجَلَّ عمَّن تركه منهم، ولم يسقط عنهم طاعة ولي الأمر ولا مودة ذوي القربى طرفة عين؛ بل هما معقود عليهم فرضهما في أعناقهم لا يخلون منهما طرفة عين أبداً.
فما كان ثابتاً معقوداً في أعناق الخلق مفروضاً عليهم لا يخلون منه طرفة عين أبداً لا عذر فيه أولى أن يكون عمود الدين من الذي يثبت في وقت، ويسقط في وقت، ويتم في آخر.
[ وجوب الوصية، والرد على من زعم أن الرسول (ص) لم يستخلف]
وزعموا أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف، فَلِم سَمُّوا أبا بكر خليفة رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟(1/46)
فإن كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- استخلفه فَلِم كذَّبوا وقالوا: لم يستخلف؟
وإن كان رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لم يستخلف فقد كذبوا عليه إذ سمُّوه خليفة، وقد قال صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ:((من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار)) .
وقد قال أبو بكر: أقيلوني بيعتي.
فقالوا لا نقيلك ولا نستقيلك.
وقال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد لمثلها فاقتلوه.
فكل هذا دليل على أن النبي عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لم يستخلف أبا بكر.
فإن قالوا: لا يستقيم أن يكون الخلق هملاً، ولا بد لهم من خليفة يقيم صلاتهم، ويؤدون إليه زكاتهم، ويُنفِذ أحكامهم، وينصف مظلومهم من ظالمهم، ويقيم جُمَعهم.
فقل لهم: فأي طعن أكثر على الله تعالى وعلى رسوله من طعنكم؛ إذ زعمتم أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- ترك هذا الخلق هملاً؛ إذ ترك أمراً لا يقوم الدين إلا به؟!.
وقل لهم: أي الفعلين أصلح: فعال محمَّد -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إذ لم يستخلف، أو فعالكم إذ استخلفتم؟
فإن قالوا: بل فعال محمَّد.
فقل لهم: فقد كان ينبغي لكم أن تقتدوا به صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ كما أمركم الله عَزَّ وَجَلَّ. وإن كان فعالهم خيراً قد نسبوه إلى التقصير؛ إذ ترك ما هو خير للأُمَّة وحاشاه -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من التقصير في دين الله.
وزعموا أن محمَّداً عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لم يستخلف.(1/47)
قلنا لهم: فَلِم استخلف أبو بكر وعمر.
وزعموا أن محمَّداً عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ لم يوص بالخلافة إلى أحد أحوج ما كانت الأُمَّة إلى خليفة من بعده.
فالرواية الصحيحة المأثورة عنه -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أنه قال:((أيما قوم خرجوا في سفر لم يؤمّروا عليهم أميراً فقد عصوا الله ورسوله)) .
فكيف ينسبون رسول الله عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ أنه يأمر أُمَّته يُؤَمِّر بعضهم على بعض ولا يُؤمِّر هو على أُمَّته من بعده، وهو يعلم أن ترك ذلك عصيان لله عَزَّ وَجَلَّ؟!.
وقد كان في حياته عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ يبعث السرايا والبعوث فيؤمِّر عليهم على أنه بين أظهرهم؛ من ذلك أنه بعث إلى مؤتة بعثاً أمَّر عليهم ثلاثة نفر جعفر بن أبي طالبرَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فإن حدث به حدث فزيد بن حارثة، فإن حدث به حدث فعبد الله بن رواحه الأنصاري.
وبعث إلى ذات السلاسل بعثاً آخر أمَّر عليه أبا بكر، وفي ذلك الجيش عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، فانهزموا.
ثم بعث بعثاً أمَّر عليهم عمر بن الخطاب، وفي ذلك الجيش أبو بكر، وعمرو بن العاص، فانهزموا.
ثم بعث بعثاً آخر أمَّر عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ، وفي البعث أبو بكر، وعمر، وعمرو بن العاص، ففتح الله على يديه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وكان صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ يخرج في الغزوات فلا يدع المدينة دون أن يستخلف عليها خليفة يقوم مقامه؛ من ذلك: أنه غزا غزوة بدر فاستخلف على المدينة أبا لبابة [بن عبد] المنذر فكان فيها أميراً حتى انصرف.(1/48)
وغزا غزوة تبوك فاستخلف علي بن أبي طالب على المدينة فكان فيها أميراً حتى انصرف.
وغزا غزوة خيبر فاستخلف أبا ذر الغفاري على المدينة فكان فيها أميراً حتى انصرف.
وغزا عام الفتح فاستخلف على المدينة عمرو بن أم مكتوم فكان فيها أميراً حتى انصرف.
وغزا بعض غزواته فخلَّف أبا رُهْمٍ كلثوم بن حصين على المدينة فكان فيها أميراً حتى انصرف.
واستخلف عتاب بن أسيد وهو بمكَّة وحجَّته معهم بالأبطح يصلي بالناس الفجر والمغرب، ويصلي أعتاب الصلوات كلها .
هذا يخرج في السفر القريب فيستخلف الخليفة من بعده؛ لأن تفزغ أمَّته إلى خليفته بما تفزغ إليه من نازلة تنزل بهم، فكيف لا يستخلف عند وفاته على جميع أُمَّته أحوج ما كانوا عندها إلى علم نازلة تنزل بهم من بعده لا يقدرون لها على حكم منصوص؟!.
لقد ضلت الخوارج ومن قال بمقالتهم ضلالاً بعيداً.
* * * * * * * * * * * * * * * * * *
[الأدلة على إثبات الوصية وفضل أهل البيت(ع) ]
فإن سألت الخوارج برهاناً ودليلاً على أن رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أوصَى إلى علي، أو شاهداً على ذلك، واحتجوا أنه لا تقطع الحقوق، ولا تنفذ الأحكام إلا بالإقرار من الخصوم، أو البينات العدول من غير أهل الدعوى ممَّن لا يَجُرُّ إلى نفسه، واحتجوا أن شهادتنا لا تجوز عليهم، وشهادتهم لا تجوز علينا، لجَرِّنا إلى أنفسنا وجَرهم إلى أنفسهم.(1/49)
فلعمري؛ إن لهم في هذا لمقالاً، فنحن نستشهد علينا وعليهم من خالفنا وإيَّاهم من جميع الفرق التي افترقت من أُمَّة محمَّدٍ عَلَيْهِ وَآلِهِ الْسَّلاَمُ وهم العامّة على أنهم أعداؤنا وأعداؤهم، وشهادتهم علينا وعلى الخوارج جائزة؛ لأنهم لا يَجُرُّون إلينا ولا إليهم مع ما نحتج عليهم من رواياتهم التي بها يُقِرُّون، وبها يأخذون، وبين أظهرهم من علماء العامّة ممَّن تُقبل شهادته لنا وعلينا، فليسألوهم عن رواياتهم هل أوصَى رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أم لم يوص؟
هذا عندهم من روايات عبد الرزاق بن هَمَّام، وهو علم من أعلام العامة ممَّن لا يطعن عليه أحد في علمه، وزهده، وورعه، وهو ورواته مخالفنا لنا ولكم.
1-[شهادة إبراهيم النخعي بالوصية لعليٍّ عَلَيْهِ الْسَّلاَمُ]
حدثني من لا أتهمه عن أحمد بن داود عن عبد الرزاق بن همام قال: أخبرنا يحيى بن العلاء:
عن الأعمش قال: اشتد مرض إبراهيم النخعي قال لخيثمة: أجلسني. فأجلسته.
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمَّداً عبده ورسوله، وأن علياً وصي رسول الله -صَلَّىَ اْللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وأن حسناً وصي علي، وأن حسيناً وصي الحسن، وأن علي بن الحسين وصي الحسين، وأن محمَّد بن علي وصي علي بن الحسين.
ثم غشي عليه، فلما أفاق قال: [هل] سمعني أحد؟
قال خيثمة: لا.
قال: اكتم عني. ثم مات في آخر نهاره.(1/50)