دليل آخر إلزامي لا يجدون عنه انفصالاً:
[ و ] هو مركب من السمع ومن العقل:
أما من السمع: فمن جهة الإجماع في طرفين [ لأن إجماع المسلمين منعقد على أن الرضا ] منا [ بالمعاصي لا يجوز، ] لأحد من المكلفين وهذا هو الطرف الأول، [ وإجماعهم ] أيضاً [ منعقد على أن الرضا بقضاء الله واجب، ] على كل مكلف وهذا هو الطرف الثاني.
وأما من العقل: فلأنه لو كانت المعاصي بقضاء الله تعالى بمعنى خَلْقِها وإرادتِها لتناقض الإجماعان المذكوران، لأن الأول نص أنه لا يجوز لنا أن نرضى بشيء من المعاصي،والثاني أنه يجب علينا الرضا بكل ما قضاه الله تعالى، فيلزم منه أنه لو كانت المعاصي بقضاء الله بمعنى الخلق والإرادة لكان لا يخلو إما أن يجب علينا الرضا بها فينتقض الإجماع الأول، أو لا يجب علينا الرضا بها فينتقض الإجماع الثاني ويتدافعان، وكلما أدى إلى التناقض والتدافع فهو باطل باتفاق العقلاء، [ و ] إذا كان الأمر كذلك علم أن [ لا مُخَلِّص إذاً ]، أصلها إذ الظرفية تضاف إلى الجمل نحو: ?وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ?{الأعراف:86}، وقد تحذف الجملة بعدها فيعوض عنها التنوين مثل: حينئذ، فتقدير الكلام ولا مُخَلِّص حين يلزم التناقض [ من ] لزوم [ ذلك ] التناقض بين الإجماعين المذكورين والقضيتين المعلومتين من الدين ضرورة [ إلا بالقول بأن المعاصي ليست بقضاء الله تعالى، بمعنى أنه خَلَقَها ولا أنه أَمَرَ بها، ] وأرادها حتى أنه يلزمنا الرضا بما قضاه الله تعالى من أفعاله وليست المعاصي من أفعاله كما مر في أفعال العباد، وهذا واضح لمن اتبع سبيل الرشاد ونزه الله سبحانه وتعالى عن كل قبيح وفساد.(1/491)
علم الله تعالى سابق غير سائق
[ و ] قد تشبَّثَ المخالفون بشبهة لا حجة فيها وهي أنه سَبَقَ في علم الله تعالى أن العاصي يفعل المعصية فلا بد أن يفعلها وإلا كشف عن الجهل في حقه تعالى.
وأشار عليه السلام إلى هذه الشبهة وجوابها بقوله و [ أما أنه عالم بها فهو تعالى عالم بها، لأنها من جملة المعلومات، ]، وقد تقرر أنه تعالى عالم بكل المعلومات، ولكن هذا لا يلزم منه أنه تعالى يفعل أفعال العباد أو يقضي بها أو يريدها أو يأمر بها، لأنا نقول: [ وعِلْمُهُ بها لم يَحْمِل العبد على فعلها، ولم يجبره على صنعها كما تقدم. ] في فصل أفعال العباد، وتقرر أنها منهم لا منه تعالى، يزيده وضوحاً أن الشبهة محررة ومفروضة على أنه سبق في علم الله تعالى أن العبد يفعل المعصية لا أن الله يفعلها فيه، فلو قدر بعد ذلك أن الله يفعلها فيه كان خلاف المفروض الذي بنوا عليه الاستدلال فيكشف عن الجهل، لأنه سبق في علم الله أن العبد سيفعل ثم كشف أن الله هو الذي يفعل ذلك فيه، فما أجابوا به فهو جوابنا، وهذا كلام جيد لا غبار عليه.
وتحقيقه: أن العلم سابق غير سائق ولا أثر له في تحصيل المعلوم، بل الأثر في ذلك هو للفاعل المختار وكون أفعال العباد واقفة على اختياره مما يعلم ضرورة بإقرار الخصم، وحينئذ فيكفي في المطابقة أن يفعل العبد الفعل مختاراً، ويزيده وضوحاً أنه لا خلاف أن الله تعالى عالم بما سيفعله تعالى من إنزال الأمطار وإنبات الثمار والأشجار والإحياء والإماتة وكخلق نفس السماوات والأرض وسائر ما فيهما وما سيفعله في الآخرة من البعث والثواب والعقاب وخلقه الجنة والنار وسائر أفعاله تعالى، فكما أنه لا يلزم أن يكون مجبوراً على ذلك ليطابق ما سبق في علم الله تعالى، بل يكفي في المطابقة أن يفعلها مريداً لها، كذلك لا يلزم أن يكون العبد مجبوراً على فعله ولا أن يخلقه الله فيه، ذكر معنى هذا المنصور بالله عليه السلام في الشافي.(1/492)
نعم ما ثبت من الكلام في القضاء من منع الإطلاق أو جوازه مع القيد حسبما مر تفصيل ذلك هو ثابت في القدر، وإنما لم يتكلم المؤلف عليه السلام على القدر استغناءً بذكر القضاء لأنهما سواء وإيثاراً للاختصار.(1/493)
معاني القدر
والقدر يأتي لمعانٍ متعددة فهو من جملة المتشابه الذي لا يجوز حمله على المعنى الذي لا يليق بعدل الله وحكمته، بل يجب أن يحمل على الوجه الموافق للعدل والحكمة والمطابق للكرم والرحمة فهو يأتي:
بمعنى: الخَلْق: على حسب الحكمة والمصلحة وإيجاد الشيء على سبيل الإرادة والاختيار لا على سبيل الإيجاب والاضطرار ومخالفة الحكمة والمصلحة والمجازفة وعدم الإتقان، ومنه قوله تعالى: ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ?{القمر:49}، رداً على أهل الإلحاد والطبائعية ونحوهم ممن يقول بنفي الاختيار ويثبت التأثير في المخلوقات إلى العلة والطبع ونحوهما على سبيل الإيجاب، وكذلك قوله تعالى: ?وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?{الفرقان:2}، ?فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ?{المرسلات:23}، كل ذلك على أهل الإلحاد القائلين بتأثير الإيجاب والاضطرار والنافين للصانع المختار أو إرادته وحكمته فيما يخلقه ويختار.
وبمعنى: المِقْدَار: ?فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا?{الرعد:17}، ?وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ? {الشورى:27}.
وبمعنى: الأَجَل: ?أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ o فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ o إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ? {المرسلات:20،21،23}، أي إلى أجل معلوم.
وبمعنى: الفَرْض والتَّقْدِيْر: يقال قدر الحاكم نفقة الطفل ونفقة المطلقة -أي فرضها مقدرة معلومة-.
وبمعنى: الكِتَابَة والإِعْلاَم: قال العجاج:
واعلم بِأَنَّ ذَا الجلالِ قَدْ قَدرْ .... في الصُّحُفِ الأُوْلَى التي كانت صدرْ
أَمْرُكَ هذا فاجتنبْ مِنْه البَتَرْ
-أي كَتَبَ وأَعْلَمَ- بما في أفعال ذلك المخاطب من ثواب أو عقاب فاجتنب من ذلك ما هو نَثَر أو بَتَر وهو القبيح.(1/494)
وبمعنى: قَاسَ ومِثْل، يقال قدرت هذا الثوب على ذلك -أي أقسته به وجعلته مثله-، فيجوز أن يقال إن الطاعات بقدر الله أي بفرضه وإيجابه لها على حسب الحكمة والمصلحة، وإن المعاصي بقدره مع القيد أن المراد كتب أحكامها وأعلم بما فيها من المفاسد والعقاب، ولا يجوز أن يقال ذلك بمعنى خلقها وأرادها خلافاً للمجبرة بناءً على أصلهم في خلق الأفعال وقد مر إبطاله.
وأما الهدى والضلال.
فهما أيضاً يأتيان لمعانٍ متعددة:(1/495)