معاني القضاء
إذا عرفت ذلك فاعلم أن القضاء في اللغة يأتي لمعان متعددة:
بمعنى: الخَلْق والتَّمَام: ?فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ?{فصلت:12}، أي خَلَقَهُنَّ وأَتَمَّ خَلْقَهُنَّ.
وبمعنى: الأَمْر والإلْزَام: ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه?{الإسراء:23}، أي أَمَرَ وأَلْزَمَ.
وبمعنى: الإعْلاَم والإخْبَار: ?وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ? {الإسراء:4}، أي أَعْلَمْنَا وأَخْبَرْنَا.
وبمعنى: الحُكْم: ?إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ? {يونس:93}، ويقال: قضى القاضي على فلان لفلان بكذا.
وبمعنى: الفَرَاغ: ?فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ?{القصص:29}.
وبمعنى: الأَدَاء: قضيت ديني وقضى نحبه-أي مات-، وقضاء بمقابل الأداء وهو ما فعل من العبادات بعد خروج وقته، وقضى الله عليه -أي أماته-، واسم قاضٍ -أي قاتل-، ومنه: ?فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ? {القصص:15}، أي قتله.(1/486)
القضاء وما يصح نسبته إلى الله تعالى وإلى العبد
فإذا كان القضاء يأتي لهذه المعاني المتعددة فاعلم أن الكلام فيه في طرفين: أحدهما: فيما يصح إسناده ونسبته إلى الله تعالى. والثاني: فيما يصح من العبد القول به ويجوز له من إطلاق القول بقضاء الله بأفعال العباد أو منعه إلا بالقيد الذي لا يوهم الخطأ من أن المعاصي بخلقه تعالى وإرادته لها.
أما الطرف الأول: فأجمعت الأمة على أن الله تعالى يقضي بأفعال العباد بمعنى يعلمها أو بمعنى يحكم فيها بحكمه أو بمعنى يعلمهم بوقوعها منهم أو أنه سيحكم بينهم فيها، وأجمعت أيضاً أنه لا يجوز أن يقضي بالمعاصي فيها بمعنى يأمرهم بها أو يلزمهم إياها، واختلفوا هل قضى بالمعاصي بمعنى خلقها وأرادها منهم أم لا؟ فمنعه أهل العدل وأثبته أهل الجبر.(1/487)
وأما الطرف الثاني: فإن كان بالنسبة إلى الطاعات فمقتضى القاعدة أنه لا يجوز إطلاق اللفظ بأنها بقضاء الله من دون قيد لإيهام أنه خلقها فيهم، ويجوز بالقيد بأن يقال قضى الله تعالى بالطاعات أي أمر بها وألزم أو حكم بها أو أعلم أو نحو ذلك مما يدفع الإيهام أنه خلقها فيهم وأوجدها دونهم، وإن كان بالنسبة إلى المعاصي فمنعه الجمهور العدلية لإيهامه الخطأ بأنه خلقها وأرادها منهم إلا ممن ثبتت عصمته كالنبي، قالوا: ولو كان الإنسان لا يقصد بها إلا المعنى الصحيح لأن في ذلك تعريض النفس للتهمة ولو من الملائكة والجن. واعترضه السيد العلامة الحسن بن أحمد الجلال في حاشيته على القلائد ونصره السيد العلامة هاشم بن يحيى الشامي في تعليقه بأن الممنوع: إنما هو مع إرادة المعنى الفاسد دون مجرد إطلاق اللفظ، واستشهد له بما فهم من عبارة الأساس وشرحه قالت العدلية: ولا يجوز أن يقال المعاصي بقضاء الله بمعنى خلقها في العباد أو ألزم بها خلافاً للمجبرة الخ. واستدل له بما ورد في الكتاب والسنة من إطلاق القضاء والقدر بلا قيد، قال: والآيات الواردة في ذلك نحو مائة آية والأحاديث بلغت إلى مائتين وسبعة وعشرين حديثاً قال: وإن كان الألفاظ الصحيحة المعاني تمنع من إطلاقها على معانيها الصحيحة توهم بعض المخذولين للخطأ فيها لوجب ترك المتشابه من كتاب الله تعالى وطرح جميع الأحاديث الموهمة للمعنى الفاسد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل لم يجز من الله سبحانه استعمال ذلك رأساً الخ ما ذكره.(1/488)
قلت: أما عبارة الأساس فلا تفيد المدعى من جواز إطلاق القضاء والقدر بلا قيد، وإنما حكى الإمام عليه السلام موضع الخلاف بيننا وبين المجبرة هل يجوز أن يقال المعاصي بقضاء الله وقدره بمعنى خلقها أم لا؟.وأما الاستدلال بإطلاق اللفظ في الكتاب والسنة ففيه نظر لأن ورود ذلك للامتحان والبلوى وتعبد العلماء بالنظر والتدبر للمعاني والأسرار اللطيفة التي يزدادوا معها إيماناً، ولا كذلك إطلاق اللفظ من المكلف غير المعصوم بأن العلة تعريض نفسه لتهمة بأن يحمله السامع على اعتقاد المعنى الفاسد، فأين أحدهما من الآخر على أن بين الأصوليين خلافٌ هل يتأسى بأفعال الله تعالى أم لا؟ والأظهر المنع، وقد أشار الأمير عليه السلام إلى الطرفين المذكورين ونص على المقصد الأهم في الباب.(1/489)
الأدلة على أن الله تعالى لا يقضي إلاّ بالحق
فقال عليه السلام [ فإن قيل لك: ] أيها الطالب الرشاد [ أربك يقضي بغير الحق؟ ]، وغير الحق: هو كل باطل من كذب أو جور أو ظلم أو فساد كفراً كان أو فسقاً أو غيرهما من سائر المعاصي [ فقل: كلا، بل لا يقضي بالكفر والفساد، ]،وهذا مذهب أهل العدل قاطبة أعني أنه لا يقضي بالكفر ونحوه بمعنى يخلقه في العباد أو يريده منهم [ لما في ذلك من مخالفة الحكمة والسداد، ]، وهذا أحد الأدلة العقلية:
ومنها: أنه لو صح أن يقضي بالكفر ونحوه بمعنى يخلقه لصح أن يأمر به لأن الأمر بالقبيح دون فعله من القبح.
ومنها: أنه لو صح أن يقضي بالكفر ونحوه بمعنى يخلقه في العباد لكان معاقباً للكفار والعصاة بلا ذنب، وقد انعقد الإجماع وعُلِمَ من دين كل نبي ضرورة أنه إنما آخذ الله الكفار ونحوهم بذنوبهم.
ومنها: أنه لو صح أن يقضي بالكفر بمعنى يخلقه لكان راضياً به، وقد انعقد الإجماع أنه تعالى لا يرضى لعباده الكفر.
وأما الأدلة السمعية:
فقال تعالى: ?[ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ?{غافر:20}، غير أنها إنما تدل على محض النزاع بالمفهوم إذ لا خلاف أنه تعالى يقضي بالحق، وإنما النزاع هل يقضي مع ذلك بالباطل أم لا؟ فتقدير الآية عند العدلية: والله يقضي بالحق لا بالباطل، وتقديرها عند المجبرة: والله يقضي بالحق والباطل.
قلنا: لو كان الأمر كما ذكرتم لناقض كثيراً من الآيات نحو: ?وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?، ?والله لا يُحِبُّ الْفَسَادَ?، ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?{الإسراء:38}، ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فأحبط أعمالهم? {محمد:28}.
فإذا ثبت ذلك [ فلا يجوز القول بأن المعاصي بقضاء الله تعالى بمعنى الخَلْق والأمر، لأنها باطل ]، وهذا واضح كما ترى.(1/490)