قلنا: لا يسلم حسن التفضل عليهم بما ذكرتم لما فيه من المفسدة وعدم التناصف واقتضاء تكذيب الرسل فيما جاءوا به من أن مصير كل كافر إلى النار وعلم ذلك من دين كل نبي ضرورة، فَلَئِن ارتفعت مفسدة البغي في الأرض من حيث أنهم قد صاروا في دار الآخرة ملجئين إلى تركه ما ارتفعت هذه المفسدة التي هي أعظم منها وهي استلزام تكذيب الرسل، ولأن إهانتهم بالعذاب والنكال مستحق لله تعالى بمقابل ما عصوه وجحدوه وكذبوا رسله، ومستحق لأوليائه بمقابل ما ظلموهم وجحدوهم ولاية الله وقتلوهم وشردوهم وأخذوا أموالهم وأخرجوهم من ديارهم، فَلِئَنْ صح أن يسقط الله الحق الذي له عز وجل فيما أساؤوا إليه لكونه غنياً عن تعذيبهم ما صح أن يسقط الحق الذي لأوليائه لأن التناصف واجب عقلاً وإلا قدح في العدل والحكمة، فلو صح ذلك لاستوى الولي والعدو والنبي والمتنبي وقد قال تعالى: ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?{ص:28}، وقال تعالى: ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَoمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?{القلم:35،36}، وفي قوله: ?مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ? أكبر دليل على بطلان صحة أن يتفضل على الكفار والفساق بدخول الجنة، وإنما يصح أن يتفضل عليهم بما لا مفسدة فيه من منافع، ونَدَبَ الإحسان إليهم بما لا مفسدة فيه مما يقتضي تآلفهم واستجذاب قلوبهم إلى حب الإيمان فقال تعالى: ?لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?{الممتحنة:8}.(1/476)
معنى الأعواض
وثالثها: الأعواض: وهي المنافع المستحقة لا على وجه الإجلال والتعظيم بل بمقابلة ما يقع من الآلام والأمراض والأسقام والغموم، ومثالها في الشاهد أروش الجنايات وسيأتي الكلام على ذلك مفصلاً في محله إن شاء الله تعالى.(1/477)
الأدلة على أنه لا يجوز تعذيب من لا يستحق وإثابة من لا يستحق
إذا عرفت ذلك علمت أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح لما ذكرنا من قبح تعظيم من لا يستحق التعظيم واستلزام تكذيب الرسل فيما جاءوا به وعلم من دين كل نبي ضرورة، واستلزام عدم إنصاف أولياء الله تعالى من أعدائه واستلزام التسوية بينهم، وأما الدلالة على بطلان القول بجواز العقاب لمن لا يستحق، فلأَن فيه أيضاً التسوية بين الولي والعدو وحيث صح أن يعذبه كما يعذب العدو، ولأن فيه عدم الانتصاف للمظلوم من ظالمه حيث صح إدخاله النار وتعذيبه معه.
فإن قيل: يدفع هذا بأن يزاد في عقاب العدو والظالم.
قلنا: وهذا لا يكفي في دفع ما يقدح في العدل والحكمة مهما كان ذو الأخف ممن لا يستحق [ لأن ] ذلك [ عقاب من لا ذنب له ] وعقاب من لا ذنب له [ ظلم، ] بلا ريب ولا شبهة، وإن نازع وكابر في ذلك الأشعري القدري أو غيره من كل مجبر مفتري في حد الظلم وحقيقته، فمِن قائل بأن الظلم: هو التصرف في ملك الغير. وآخر: هو وضع الشيء في غير موضعه. وآخر أنه لا معقولية للظلم إلا فيما بين الناس في الشاهد. فكلها مصادمة لضرورة العقل فلا تُسمع.(1/478)
ويُبطل أقوالهم الجميع اتفاق العقلاء أنهم متى رأوا رجلاً يعمد إلى طفل يضربه أشد الضرب ثم يقطع أوصاله ويكسر عظامه ويبين مفاصله، فإنهم كافة ملحدهم وموحدهم وأقصاهم وأبعدهم يبادرون إلى ذمه وإلى مدافعته عن ذلك الطفل ويحكمون فيه بالجنون إن لم يكن عاقلاً، أو بفرط الظلم والجراءة إن ظهر لهم فيه أمارة عقل قبل أن يلتفتوا هل هو مملوكه أم لا؟ وهل الفاعل منهياً أم مربوباً أم لا؟ ومن دون نظر هل الطفل موضع لذلك الإضرار أم لا؟ على أن ما فعله هذا الرجل بالطفل لا نسبة له في الإضرار من التعذيب بالنار على سبيل الأبد، وعلى أن ما يفعله الرجل مع تجويز الجهل أو الحاجة من تشفي بعدوٍ له يقرب إليه الطفل يكون في القبح دون ما لو صدر من عالم مستغنٍ عنه، فكيف بصدور ذلك عن أعلم العالمين وأغنى المستغنيين عن القبيح وأحكم الحاكمين في الفعل المليح؟! وأين منتهى قبح تعذيب أوليائه على سبيل الأبد، فما هو إلا ظلم ضرورة لا يسمع ما يقدح به فيها كما هو المقرر في علم المعقول: أنه لا سماع لما يقدح في الضروريات والبديهيات، وإلا ارتفعت الثقة بالمشاهدات وبطلت الأدلة المنتهية إلى الضرورات والبديهات، وإذا كان تعذيب من لا يستحق التعذيب ظلماً [ والظلم قبيح، ] بضرورة العقل وبديهته [ و ] جب القطع ببطلان هذه المقالة لما قد علم في أول الباب واتفقت عليه عبارة الجميع من العدلية والجبرية و[ هو أنه تعالى لا يفعل القبيح، ]، وهذا أصل ينبني عليه جميع مسائل العدل ما سلف منها وما بقي، فتقرر بهذه الدلالة العقلية بطلان القول فيما يذهب إليه أهل الجبر من جواز تعذيب من لا يستحق وإثابة من لا يستحق.
وأما الدلالة السمعية:
فهي أيضاً متقررة معلومة لأنه قد [ قال تعالى: ?فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ?{العنكبوت:40}، وقال تعالى: ?وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى?{الأنعام:164} ]، فنفى أن تحمل نفس مذنبة ذنب مذنبة أخرى، فكيف بالتي لا ذنب لها؟.(1/479)
شبهتهم: أما من جهة العقل: فقال القرشي في المنهاج: لا شبهة لهم من جهة العقل.
قلت: بل لهم شبهة من جهته وهو أنهم يقولون: مالك متصرف في مملوكه فله أن يعذب هذا ويثبت هذا ولأنه تعالى غير منهي أو غير مربوب أو نحو ذلك، ولعل مراد القرشي رحمه الله تعالى أنه لا شبهة لهم تخص هذه المسألة على إنفرادها لأن ما ذكرناه إنما يتناول هذه المسألة على سبيل تناول العام لأحد المفردات الداخلة تحته بأن يقال فله أن يتصرف في مملوكه بما شاء، ومن جملة ذلك التعذيب والإثابة لمن لا يستحق أو أنه غير منهي عن شيء، ومن جملة ذلك كونه غير منهي عن تعذيب أو إثابة من لا يستحق.
والجواب والله الموفق للصواب: أن هذه المقدمات التي بنوا عليها هذه المسألة وغيرها مما يخالف العدل من كونه مالكاً فله أن يتصرف في مملوكه بما شاء أو أنه غير منهي عن أي شيء، لا تناكر فيها بل هي معلومة الثبوت له تعالى على الكمال، ولكنا لا نسلم لهم منها الدلالة على كونه تعالى يصح أن يعذب أحداً بغير ذنبه أو يثيبه بغير عمله، لأن المالك الحكيم وإن كان غير منهي ولا مربوب فإنه لمكان العدل والحكمة يمتنع منه ما ذكر، لأنه لا شك في سخافة من أهان وليه وأعز عدوه، ولأن ذلك يستلزم الظلم ونحوه مما مر تقريره في تعذيب من لا يستحق العقاب، وتعظيم من لا يستحق التعظيم في إثابة من لا يستحق الثواب، والله تعالى منزه عن كل قبيح وعن كل صفة نقص، ولا شك أن ما فيه السخافة والسفاهة نقص، وأي نقص فبطل ما زعموه وانتقض ما أبرموه.
وأما من جهة السمع:
فاستدلوا بقوله تعالى: ?وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ?{العنكبوت:13}، وقوله تعالى: ?وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً?{الأنفال:25}، وقوله تعالى: ?كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا? {النساء:56}.(1/480)