قلنا: المعنى: وما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، بأن أوصل التراب الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أعين الكفار، لأن القصة أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حفنة من التراب فرمى بها وقال: "شاهت الوجوه" فتفرقت في الهواء بإذن الله وبلغت إلى حد لا تبلغه رمية البشر في العادة ووصلت إلى أعين المشركين حتى روى في الكشاف: أنه لم يبق مشرك إلا اشتغل بعينه وانهزموا وتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم فلذلك قال تعالى: ?فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ?{الأنفال:17}،ولو أراد ما ذكره المخالف لتناقض معنى الآية حيث يثبت الرمي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وينسب إليه عين ما نفاه أولاً بقوله: ?وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ?.
قالوا: قال تعالى: ? ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ? {آل عمران:152}.
قلنا: ليس في الآية أن الصرف هو العزيمة التي نهاهم الله عنها، ويجوز أن يكون المراد به التخلية بينهم وبين الكفار وإزالة النصر ووقوع الفشل بسبب التنازع وعدم طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما أمرهم به من الثبوت على المواطن التي ألزمهم القيام والثبات فيها، وفي الآية وجوه غير ذلك والغرض الاختصار.
قالوا: قال تعالى: ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ? {إبراهيم:35}.(1/471)
قلنا: المعنى اعصمني بالتوفيق والهداية إلى الأدلة الدالة على قبح عبادة الأصنام حتى تُبغض إليَّ عبادتها فأجتنبها، فهو من تسمية الشيء باسم ما يتسبب عنه ونحو ذلك كثير كقوله: ?وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ?{الحجرات:7}، أي فعل فيكم من الألطاف والتوفيقات ونصب الأدلة ما عنده تكرهون الكفر والفسوق والعصيان، وبعد، فقد قال بعدها ?رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ?{إبراهيم:36}، فلو حمل الكلام على ظاهره لتناقض، لأن الإضلال إذا أسند إلى الأصنام بطل أن يكون من الله تعالى وفي ذلك نقض الجملة المحتج بها، وشبههم كثيرة من أرادها فعليه بالبسائط، وقد ذكر القرشي رحمه الله تعالى والإمام المهدي عليه السلام في الغايات شطراً منها.
I(1/472)
فصل في الكلام في أن الله عز وجل لا يعذب أحداً إلا بذنبه ولا يثيبه إلا بعمله
وتسمى هذه المسألة مسألة المجازاة وهي أن الله تعالى يجازي كل نفس بما أسلفت والكلام في هذه المسألة في طرفين: أحدهما: في الجواز، والثاني: في الوقوع.
أما الطرف الأول: فالخلاف فيه لأهل الجبر بأجمعهم فقالوا: إنه يجوز أن يعذب المؤمنين من الأنبياء والأولياء والأصفياء بذنوب الكفار من الفراعنة والمشركين والأشقياء، لأنه غير منهي ولا يقبح منه قبيح.
وأما الطرف الثاني: فذهبت الحشوية منهم إلى: أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم. والذي عليه أهل العدل قاطبة: أنه لا يجوز ولا يقع شيء من ذلك.
قال عليه السلام : [ فإن قيل: ] لك أيها الطالب الرشاد [ أربك يعذب أحداً بغير ذنبه؟ ] أو يثيبه بغير عمله؟ [ فقل: لا، بل لا يعذب أحداً إلا بذنبه، ] ولا يثيبه إلا بعمله، وإنما تكلم المؤلف عليه السلام في العقاب دون الثواب إيثاراً للاختصار واستكفاءً بذكر أحد الطرفين عن الأخر وملاحظة لتنزيه الله تعالى عن فعل الظلم والجور بخلاف مسألة الإثابة لمن لا يستحق الثواب، فغاية تعظيم من لا يستحق التعظيم وهو وإن كان قبيحاً عقلاً فهو دون تعذيب من لا يستحق العقاب في القبح لما فيه من الظلم والجور والإهانة لمن لا يستحقها، ولا بد من الإشارة إلى الفرق بين الإثابة والتفضل، لأن التفضل لا يستقبح عقلاً بل يحسن لما فيه من التكرم والإحسان دون إثابة من لا يستحق الثواب فهو قبيح لما فيه من تعظيم من لا يستحق التعظيم، وحاصل الكلام في ذلك أن المنافع المفعولة من جهة فاعلها إلى الغير على ثلاثة أضرب:(1/473)
معنى الثواب
أحدها: الثواب: وهو المنافع المفعولة على سبيل الاستحقاق مقرونة بالإجلال والتعظيم على ما سبق ممن فُعلت له من الأعمال الصالحات إلى من كافاه عليها بفعله تلك المنافع، ومثالها في الشاهد ما يفعل من الهدية والثناء والإجلال لمن قدم الإحسان فإن ذلك مستحق ولا يستحقه إلا من قدم الإحسان، ومن ثمة قبحت عبادة الأصنام وقيام الملك في وجه الجازر إجلالاً وتعظيماً له وقبح تعظيم الأجانب والأباعد والأعداء كتعظيم الوالدين والأقرباء والأصدقاء، وهذا دليل هذه المسألة فلا يحتاج إلى إعادته.(1/474)
معنى التفضل
وثانيها: التفضل: وهو المنافع المفعولة لا على سبيل الاستحقاق والتجليل والتعظيم كما يعطيه الغني السائل المحتاج فإن ذلك حسن لما فيه من سد فاقة المحتاج ومكارم الأخلاق والإحسان واكتساب المروءة والألفة بين الخلق ما لم تقارنه مفسدة من إيناس الظالم والإغراء على المعاصي كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: ?وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ?{النساء:5}، وبقوله: ?وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ? {الشورى:27}.
إن قيل: يلزم على ما ذكرتم من حسن التفضل عند عدم المفسدة أن يصح أن يتفضل الله على الكفار والفساق بدخول الجنة، فتبطل المسألة المقررة.(1/475)