الوجه الخامس: أن آيات الكتاب العزيز كما قال الله تعالى: ?مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ?{آل عمران:7}، فاقتضت الآية أن المتشابه لا يجوز اتباع ظاهره بل يجب أن يُؤَوَّل على وجه يطابق المحكم إذا رجع إليه، وقد جعل الله المحكم كالأم للمتشابه -أي مرجعاً يُرد إليه-، والمعلوم أن أهل الجبر إنما أخذوا ما ذهبوا إليه من أن أفعال العباد من الله لا منهم من المتشابه وأنهم رفضوا المحكم وراء ظهورهم وحرفوه عن مواضعه كما في قوله تعالى: ?وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ?{المؤمنون:63}، فهذا محكم إذ لا يعقل له معنى غير ظاهره، وهو أن الكفار المسوقة الآية من شأنهم لهم أعمال غير ما قد نعاه عليهم وقبحه منهم، وقال: ?هُمْ لَهَا عَامِلُونَ?، فلو لم تكن من فعلهم لكذبت الآية فرفضوا هذه الآية الصريحة في أن الأعمال هي لهم وأنهم لها عاملون، وأخذوا بالمتشابه وهو قوله تعالى: ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ?{الصافات:96}، فجعلوا ما مصدرية وجعلوا التقدير: ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ? وعملكم مع أن لفظة ما قد جاءت في لغة العرب لعشرة معانِ يجمعها قوله:
مَعَانٍ لِمَا عَشْرٌ أَتَتْ في كلامِهِم .... جميعاً فَخُذْهَا أَيُّهَا المُتَعَلِّمْ
سَتَفْهَمُ شَرْطَ الوصلِ صِفْهَا وَصِفْ بِهَا .... بِكَفٍّ ونَفْي مَصْدَراً زِدْ لِتَفْهَمْ(1/461)
فحملهم لما على أنها مصدرية من بين جميع المعاني المذكورة اتباعاً للمتشابه لأن حقيقته ما احتمل معنيين فأكثر لم يعلم المراد منها إلا بدليل أو يقال المحكم ما اتضح معناه والمتشابه بخلافه، وهو ما لم يتضح معناه فالحد متحد،وكذلك قوله تعالى: ?وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ? {البقرة:205}، ?وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ?{الزمر:7}، ?وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَاد?{غافر:31}،?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?{الإسراء:38}، ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ?{محمد:28}، كل هذه الآيات مصرحة أنه لا يريد المعاصي بل يكرهها ويسخطها وأنها أعمالهم فرفضوا ذلك كله وجعلوه من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله مع أنه كما تراه واضح المعنى ثابت المبنى يفهمه كل من سمعته أذنه واتبعوا المتشابه نحو: ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ?{الإنسان:30}، ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا?{البقرة:253}، ?وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا?{السجدة:13}، ?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا?{يونس:99}، لأن هذه الآيات إذا حملت على ظواهرها لم يعقل المعنى المراد لأن قوله تعالى?وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ? محذوف مفعول المشيئة، وكذلك ?وَلَوْ شِئْنَا?لم يذكر مفعوله، ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ?، ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ?، كلها محذوف فعل المشيئة منهم ومنه تعالى، ومع كونه محذوفاً لم يصح أن يقدر على حسب ما قدروه لتطابق الآيات مذهبهم بأن المعنى لو شاء الله الإيمان، وإن سلمناه على التنزل فما المانع من أن المراد لو شاء الله الإيمان كرهاً لفعل أو لما أشركوا يدل عليه: ?أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ?{يونس:99}، فثبت بهذه الآيات وأمثالها(1/462)
أنهم اتبعوا المتشابه المحتمل، ورفضوا المحكم الذي لا يحتمل التأويل، وذلك لا يجوز لأنه سمة الذين في قلوبهم زيغ كما نطقت به الآية الكريمة.
الوجه السادس: أنهم ذهبوا إلى أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وأن الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله، وهذا وإن قال به بعض السلف الصالح فإنهم عملوا بموجب هذا القول ولم يأخذوا بالمتشابه ولا دانوا بجبر ولا تشبيه ولا إرجاء ولا غير ذلك من العقائد الردية والمقالات الكفرية كما سيأتي في نقل شيء من كلامهم الذي يدل على أنهم كانوا رحمهم الله تعالى على حسب ما ذكرنا بخلاف هؤلاء القوم، فإنهم قالوا بذلك ولم يَقِفُوا عند حده ولا دانوا بموجبه بل تركوا العمل به وعملوا بخلافه واتبعوا ظواهر المتشابهات من الآيات الكريمة واعتمدوا الشواذ من روايات الأحاديث الضعيفة وأسانيد أهل الابتداع وأعوان الظلمة ورجحوها على صرائح الآيات المحكمة والأحاديث المعلومة برواية الموالف والمخالف، وما ظنك بقوم عدلوا عن سفينة نوح وتركوا الدخول من باب حطة وباب السلم المفتوح قرناء الكتاب وحجج الله على جميع خلقه إلى يوم الحساب.
فهذا ما نوجهه ونقدمه في وجوه القوم عند إرادتهم الاستدلال بالسمع على سبيل الإجمال، ثم نأخذ بعدهم في تتبع شبههم السمعية ونبطلها شبهة شبهة على سبيل التفصيل ?والله يقول الحق وهو يهدي السبيل?.
قالوا: قال تعالى: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا?{الأنبياء:73}، ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ? {القصص:41}، ?رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لك ? {البقرة:128}، ?رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي? {إبراهيم:40}.(1/463)
قلنا: الجعل: الوصف، كقوله تعالى: ?وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا? {الزخرف:19}، ?وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ? {النحل:57}، ويحتمل قوله تعالى: ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا?، أي وفقناهم لما فيه من الصلاح والفلاح، وهو تعلم العلم النافع ومكارم الأخلاق حتى صاروا أئمة يقتدى بهم في الدين، ويحتمل نصبناهم ووليناهم وجعلنا الأمر إليهم وسميناهم وحكمنا لهم بالأمانة لما كانوا صابرين على تحمل أثقالها والقيام بواجباتها، ومعنى ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا?، أي سميناهم وحكمنا عليهم، أو نزل التمكين والإمهال بمنزلة الجعل لمشابهته له في عدم الإلجاء إلى الترك، وفي قول إبراهيم عليه السلام :?رَبِّ اجْعَلْنِي? وفقني أو احكم لي وسمني بأني مقيم الصلاة، لأن ذلك شائع كثير كما قال تعالى: ?وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا?{التوبة:40}، وتقول: جعلت كلام زيد صحيحاً - أي دللت وبينت على صحته-، فالجعل وإن ورد بمعنى الخلق كما في قوله تعالى: ?وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ?{الأنعام:1}، فقد ورد لمعان أُخر كما ذكر فيكون من المتشابه الذي يجب حمله على ما يوافق المحكم كما ذكر، ويقال للمخالف: أتزعم أن الجعل لا يأتي إلا بمعنى الخلق أم تسلم أنه مشترك ؟ إن قلت: بالأول. لم يستقم لك في قوله تعالى: ? وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثًا?{الزخرف:19}، ?وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ?{النحل:57}، وإن قلت: بالثاني. بطل الاستدلال لأن المشترك من المتشابه وعندكم لا يعلم تأويله إلا الله.
قالوا: قال الله تعالى: ?رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا? {البقرة:250}.(1/464)
قلنا: لابد من ترك ظاهرها، لأن الإفراغ إنما يعقل في الأجسام وأكثر ما يستعمل وقوعه في المائعات دون الصبر ونحوه من سائر المعاني، فإن الإفراغ فيه مجاز كناية عن التوفيق والتسديد والمعونة بما معه يصبروا وتثبيت أقدامهم عند لقاء عدوهم حتى لا يفروا مبالغة وتمثيلاً كان قد أذيب الصبر وأفرغ على الأقدام فلزمت مصافها، وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه على أنه إنما هو دعاء والدعاء لا يستلزم الوقوع.
قالوا: قال تعالى: ?وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا?{الرعد:15}، فصرح بأنه يكره على الطاعة وفي ذلك ما نريد.
قلنا: لا بد من ترك ظاهرها لاقتضائه أن جميع ما خلق الله في السماوات والأرض يسجد هذا السجود الحقيقي الشرعي، ومعلوم أن ذلك لا يتأتى من الجمادات والبهائم ونحوها، ولأن المعلوم أن أكثر أهل الأرض كفاراً لم يفعلوا هذا السجود طوعاً ولا كرهاً، وإذا بطل هذا المعنى وجب تأويل الآية على وجه يصح، وهو أنه تعالى أراد بذلك الانقياد والإذعان لما يحدثه فيهم ويفعله من الخلق والمرض والإحياء والإماتة بهم، وعبر عنه بالسجود كما حكى عن إخوة يوسف عليه السلام : ?وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا?{يوسف:100}، أي منقادين مذعنين داخلين تحت أمره، وكما قال الشاعر: تَرَى أَلاَ كَمْ فيها سُجَّداًً للحَوافِر.
قالوا: قال تعالى: ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ?.
وقد مرت الإشارة إلى هذه الآية ولم يبين المعنى المراد منها وإذا أردنا بيان المعنى المراد.
قلنا: المعنى خلقكم وخلق ما تعملونه أصناماً وهي الحجارة والأخشاب ونحوهما، لأنه لو أراد ما ذكرتم لناقض التوبيخ وإسناد النحت إليهم المذكورين في أول الآية بقوله: ?أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ? {الصافات:95}.
قالوا: قال تعالى: ?خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا?{البقرة:29}، ومن جملة ما في الأرض الظلم والفساد.(1/465)