الوجه الثالث: أن الكلام من حيث هو لا يصح الاستدلال به إلا لمن قطع بأن المتكلم به صادق حكيم لا يكذب، وهذا وإن قال به المجبرة في اللفظ فإنهم يقولون بما يقتضي نفيه في المعنى لأنهم قالوا: ما من كذب وقع في الخارج إلا وهو تعالى فاعله ومريده وخالقه ومدبره. وكذلك الحكمة ينفونها في جميع أفعاله إلا الأقل منهم، وحينئذ فقولهم إن الله تعالى صادق حكيم لا يكذب إنما هو في الظاهر فقط، فأما في الباطن فهو بخلافه تعالى الله عن ذلك، لا يقال هذا لا يرد علينا في الاستدلال بالكتاب أو السنة لأنا وإن قلنا إنه فاعل الكذب وخالقه ومُريده فإنما نعني بذلك الكذب الذي ورد على ألسنة الكذابين كفرعون والنمرود وهامان وغيرهم من جميع الكفار والكهنة والسحرة وسائر كذب الكفر، وكذلك كذب الفسق من سب المؤمن وقذفه، ويمين الغموس وغير ذلك مما هو بخلق الله تعالى في العبد، فالإلزام ساقط بالنظر إلى ما أخبر به تعالى في الكتب المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه المرسلة، لا نقول: إذا جاز عندكم أن يفعل ويخلق هذا الكذب كله على كثرة أنواعه المذكورة وغيرها ومن كل نوع ما لا ينحصر إلا له عز وجل، فليجز أن يفعل ويخلق ما هو أقل عدداً وأيسرا أمدا، لأن الجمل الإخبارية في الكتب المنزلة وعلى ألسنة الأنبياء المرسلة قليلة جداً بالنظر إلى ما ذكر من أنواع الكذب وغير ما ذكر مع طول أمده وتتابع وجوده، ألا ترى أن كل نبي يبعث رسولاً إلى قوم فإن المكذبين له أكثر من المصدقين على أن المصدقين أكثر عدداً من آي الكتاب والجمل الإخبارية ليست إلا البعض من آياته.(1/456)
لا يقال: إن كلماته التي أحاط بها علمه تعالى وإليها الإشارة بقوله: ?لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي? {الكهف:109}، وبقوله تعالى: ?وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ?{لقمان:27}، تزيد على ما ذكرتم من أنواع الكذب زيادة لا يسعها إلا علمه تعالى وكلها صدق والحكم للأكثر.
لأنا نقول: كلامنا فيما وصل إلينا من الكلمات التي اشتملت عليها كتبه وبلغتنا رسله، وهو قياس تجويز الكذب فيها على ما قد علم وقوعه عند الخصم على ألسنة الخلق فيحصل التجويز قياساً على الوقوع من باب الأولى، وحينئذ فلا يحصل القطع بصدق ما ورد من السمع على مذهب الخصم.
وبعد فقوله: في الكلمات التي أحاط بها علمه تعالى وكلها صدق والحكم للأكثر. إنما يستقيم القول بأن كلها صدق على القول بالعدل، فأما على القول بالجبر فلا يتأتى ذلك لأنه تعالى غير منهي عن الكذب، وإذا كان غير منهي عنه فلم يفترق الحال بين قليله وكثيره، فلا سبيل لهم إلى القطع بأن تلك الكلمات بعضها صدق فضلاً عن كلها،وكذلك قوله: والحكم للأكثر. لا يسلم خصوصاً في الأخبار ونحوها، فإنه متى علم الكذب من المتكلم لم يوثق بخبره ولو علمنا صدقه في أكثر مما أخبر عنه كاذباً ما لم يعلم توبته أو كان يسيراً على جهة السهو والخطأ أو الإكراه أو نحوه مما جوزه الشرع وإلا فلا، وعليه قوله:
وَمَنْ يَكُ كَذَّاباً فإِنَّ جَزَاءَهُ .... إذا ما أَتَى بالصدقِ أَنْ لا يُصَدَّقَا(1/457)
الوجه الرابع: أن الخبر إذا كان بواسطة مبلغ، فلا يصح الاستدلال به إلا مع العلم بصدق المبلغ له وهم الرسل إلى الخلق، وهذا وإن قال به أهل الجبر فهم لا يتمكنون من نصب أدلته المقتضية القطع بعدم تجويز الكذب من الرسل عليهم السلام، لأن أصول المجبرة تقتضي جواز الكذب على الأنبياء في كل ما أخبروا به لأنهم لما عللوا قبح الأفعال بالنهي عنها والله تعالى غير منهي عن شيء كان لا يمتنع أن يوحي إلى من يعلم منه أنه سيكذب في جميع ما أمره بتبليغه، فلا ينتج القطع حينئذ بصدق المبلغ، لأنه إنما نتج القطع بصدق المبلغ عند أهل العدل لمكان الحكمة من أن الحكيم لا يرسل من لا يأتمنه فكيف بمن يعلم أنه سيكذب في جميع ما أمره بتبليغه، فصح لأهل العدل القطع بصدق الأنبياء عليهم السلام وعصمتهم عن الكذب دون أهل الجبر فهو قول منهم لا مقتضى له ولا أمارة يحصل معها ظن الصدق، بل أصولهم الكاسدة وعقائدهم الفاسدة اقتضت تجويز نقيض الصدق على الرسول والمرسِل، تعالى الله وحاشا أنبياءه عليهم السلام عن ذلك.
لا يقال: هذا لا يرد لأن الكذب يقبح من النبي لأنه منهي عنه ولأنه يقدح في عدالته،وقد انعقد الإجماع على عدالة الأنبياء عليهم السلام فلا يتأتى وقوع الكذب من النبي.(1/458)
لأنا نقول: نعم إن الأمر كما ذكرت أن الكذب يقبح من النبي لأنه منهي عنه ويقدح في عدالته، ولكنا ألزمناك على قود مذهبك النكيث واعتقادك الخبيث أنه يصح ولا يمتنع من الله تعالى أن يوحي إلى من علم من حاله أنه سيكذب عليه تعالى فيما أمره بتبليغه،وأما أنه قد انعقد الإجماع على عدالة الأنبياء عليهم السلام فحجية الإجماع متفرعة على صحة السمع، فلا معنى له فيما نحن بصدده لأنكم مطالبون بتصحيح أصله الذي تفرع ثبوت حجيته عليه على أنا نستظهر بالإجماع على إثبات مذهبنا بأن نركب الدليل على مسلك لا يسلكه المجبر القَدَرِي ولا يتأتى لذلك الأَفَّاك المفتري، وهو أن نقول: إن الإجماع على عدالة الرسل عليهم السلام يستلزم عدالة المرسِل لهم فيكون من باب الاستدلال بثبوت التابع على ثبوت المتبوع، ويكون هذا كقولهم كرامات الأولياء معجزات للأنبياء واستلزام عدالة المرسِل لا تتأتى على القول بالجبر، لأنه يقال: لو صح أن يخلق الكذب لصح أن يرسل الكاذبين لكنه قد انعقد الإجماع على صدق الرسل وهو في منزلة قولك: لكنه لا يرسل الكاذبين بالإجماع، فيجب أن لا يفعل الكذب من باب الأولى لأن المرسِل بمن يعلم من حاله أنه سيكذب دون الأمر بالكذب في القبح والآمر به دون فاعله في القبح، ومن ثم يقال: ليس على الآمر مع وجود المباشر، وعندهم أن الله تعالى خالق كل كذب فلزم أن لا وثوق بما أخبر به سبحانه على ألسِنَةِ الرسل، وهذا واضح.
لا يقال: هذا من باب الاستدلال على ثبوت الأصل بثبوت الفرع وهو ممنوع.(1/459)
لأنا نقول: إنما يكون ممنوعاً إذا لم يعلم حكم الفرع إلا من جهة ثبوت حكم الأصل لاستلزام التوقف، وليس هذا منه لأنا أثبتنا حكم الفرع بالإجماع لا بتفرعه على الأصل المطلوب إثباته، ثم استدللنا بثبوت الفرع المعلوم لدينا ثبوته بالإجماع على إثبات الأصل الذي وقع فيه النزاع، فيكون كما قيل: كرامات الأولياء معجزات للأنبياء، يعنون الكرامات التي علمت بمشاهدة أو تواتر لا إذا كان لا طريق إلى العلم بها إلا مجرد خبر النبي المطلوب إثبات نبوته بمجردها فقط،وهذا راجح لمن تأمله إلا أنه على سبيل الاستظهار لتوقف ثبوت حجية الإجماع على صدق المبلغ دليلها، لكنا قد أثبتناه بدليل ثبوت العدل من أنه لا يصح من الحكيم أن يرسل من لا يؤمن منه الكذب وليس هذا من مقول الخصم، فلا يصح له التمسك بالإجماع لهذه المسألة وإن صح لنا، فتأمل.(1/460)