إبطال شبهة المجبرة
تتمة: نذكر فيها بعضاً من شبه المجبرة التي يزعمون أنها أدلة صحيحة على أن الله تعالى خلق أفعال العباد.
واعلم أن لهم شبهاً يستدلون بها بعضها يجعلونها من جهة العقل، وبعضها يجعلونها من جهة السمع، والكل لا ثبوت له ولا صحة لشيء منه، وإنما هو من باب قوله تعالى: ?شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا? {الأنعام:112}، لأن العدل والجبر في طرفي نقيض إذا ثبت أحدهما استحال ثبوت الآخر وعلم يقيناً بطلان القول به وبطلان كل قول يستدل به عليه، وقد علمنا قطعاً بالأدلة التي مرت وأثبتت مقدماتها على بداية العقول وصرائح المنقول، واعتضدت أولاً بتلك الإلزامات التي يلزم معها الرجوع إلى العدل أو الكف الصريح فيما يلزمها من صحيح القول أو العناد المحض الذي هو عين مكابرة العقل، فهذا ما يقال على جميع شبههم على الجملة سواء تصوروها وتوهموها واخترصوها من جهة العقل، أو أخذوها وحرروها وأثبتوها من ظاهر المتشابه من الآيات وصحيح النقل، ثم نأخذ في إبطال استدلالهم بكل من قسمي الأدلة العقلي والنقلي على حِدَته بدلالة تخص كل واحد منهما على حدته وتبطله بأسره على الجملة.(1/446)


فنقول: أما استدلالهم من جهة العقل مع قولهم بالجبر، فلا معنى له ولا يصح طلب الأدلة لمن رام تحصيله لأنه من جملة أفعال العباد التي يخلقها الله في قلوبهم أو لا يخلقها، وعلى كلا التقديرين وهو خلق الاستدلال أو عدمه، فالاشتغال والاهتمام به مما لا يصح لأنه إن خلق في الإنسان أغناه ذلك عن الاشتغال وإتعاب البال، وإن لم يخلق، فالاشتغال وإتعاب البال عبث لا حاجة له بحال، وهذا كما أنه يبطل على أهل الجبر استدلالهم عليه ويقضي بقبح النظر منهم فيما يتوصل به إليه فهو مع القول بالجبر يتعداه إلى النظر في إثبات الصانع تعالى ومعرفته حق معرفته من أنه قادر عالم حي دائم واحد لا شريك له ولا نظير بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فيلزم أن لا يصح النظر في إثبات الصانع تعالى وسائر ما ذكرنا مما يجب لله تعالى وأنه لا يحسن ذلك بل يلزم قبحه للزوم العبث حسبما ذكر، فيكون الكفار المعرضون عن التفكر في ملكوت السماوات والأرض الموصل إلى معرفة الله أحسن حالاً من الذين تفكروا ونظروا حتى عرفوا الله وآمنوا به، لأن أولئك تركوا ما لا يعنيهم وأراحوا أنفسهم عن تطلّب ما لا يمكنهم تحصيله واجتبوا العبث المستقبح عقلاً، وهؤلاء تعرضوا لما لا يعنيهم وأتعبوا نفوسهم فيما لا يجديهم وإن حصل فليس من فعلهم ولا سعيهم وارتكبوا العبث المستقبح، فقد رأيت أيها الطالب الرشاد أن الجبر إنما هو مفتاح الإلحاد والتعطيل، وأنه لا يستقيم معه تحرير أي دليل على شيء من العلم كثير ولا قليل.(1/447)


وبعد فإن من قواعد الجبر التي قررها مشائخه المبطلون، وأسسها لهم المشركون الأولون أن الله تعالى يريد كل واقع من كفر أو إيمان أو طاعة أو عصيان أو علم أو جهل أو صدق أو كذب وحينئذ فلا ثمرة في الاشتغال لتحصيل العلوم والدندنة حول إثبات الحي القيوم فسواء مشى الإنسان في ذلك أو قعد، وسيّان تفكر أو تمرد، ولا فرق بين النقيضين أَلحَدَ أو وحَّدَ، ولا رُجحان لإحدى الجنبتين ضل عن الدين أو استرشد، فبعداً لمن ذهب مذهباً يقضي بسالكه إلى هذه الحد، وسحقاً لاعتقاد لزمته هذه الجهالات وإليه تستند، وتعساً لقوم لا يتفطنون لما يلزم مذهبهم من هذه المحالات التي على مذهبهم تعتمد، وإني والله لا أظن الجبر إلا من دسائس أهل الإلحاد والتعطيل التي طالما أعملوا الحيل وخادعوا بها المسلمين ومن قبلهم ممن آمن بالله رب العالمين.
وبعد فإن من قواعده أيضاً أن الله تعالى لا يقبح منه قبيح لكونه غير منهي ولا مربوب، وحينئذ فلا يؤمن مع ذلك أن ينصب لهم الأدلة المفضية إلى إثبات الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع، فيؤدي إلى الدخول في السفسطة وترتفع الثقة بما أدركته الحواس بالمشاهدة وترتفع العلوم المعلومة بالضرورة، وماذا بعد هذا إلا تصويب الصبيان والمجانين وأهل الخلاعة، فهل يصح اعتقاد كانت هذه الضلالات لازمه أم يحسن تعلم علم أسست على هذه الجهالات قوائمه، فهذا ما سنح إيراده على استدلالهم بالعقل إجمالاً وهو عام لكل شبهة يحررونها لكل مسألة يثبتونها.
وأما إبطال شبههم العقلية على التفصيل:(1/448)


فأعظمها ما عول عليه الرازي في مؤلفاته وأكثر إيراده في تفسيره وهي أنهم: قالوا: لو كان أحدنا فاعلاً لفعله لكان يفعله إما على وجه لا يتمكن معه على الترك وهو المطلوب، أو على وجه يتمكن معه من الترك، فصدور الفعل لا يترجح على الترك إلا لمرجح إما من فعل العبد فيتسلسل أو من فعل الله، فأما والفعل معه واجب وهو المطلوب أيضاً أو جائز احتاج إلى مُرَجِّح ويتسلسل، فلم يبق إلا أنه مجبر على الفعل.
قلنا: المرجح من فعل العبد وهو الإرادة، ولا نسلم لزوم التسلسل بأنها تحتاج إلى إرادة ترجح وجودها على عدمها لأن الشيء لا يحتاج إلى ما هو من جنسه لأن وجوده قد أغنى عن وجود ما هو من جنسه ليجعله على تلك الجنسية، ألا ترى أن البياض لا يحتاج إلى بياض يجعله أبيضاً لأنه قد استغنى عن بياض غيره ببياض نفسه، وهكذا جميع الأجناس كالدسومة فإنها لا تحتاج إلى دسومة أخرى حتى تصير دسومة، والحموضة فإنها لا تحتاج إلى حموضة أخرى حتى تصير حموضة، وبعد فهذا وارد عليهم في الكسب وفي أفعال الله تعالى فما أجابوا فهو جوابنا.
قال القرشي رحمه الله تعالى: واعلم أن هذا شيء أوردته الفلاسفة في حدوث العالم إلى أن قال: وقد أجاب به يعني بالجواب الذي أجبنا به على المجبرة الرازي في كتاب الأربعين على الفلاسفة فما باله صادر عليه هنا وحرره شبهة لو صحت لبطل الصانع الخ، وحينئذ فنقول للرازي: ما أجبت به على الفلاسفة به وأجبتم علينا به في الكسب وفي أفعال الله تعالى فهو جوابنا.
قالوا: لو كان العبد فاعلاً لأفعاله لقدر على إعادتها.(1/449)


قلنا: وما تريدون بقولكم: لقدر على إعادتها. هل تريدون إرجاع ما قد برز إلى الوجود وإعادته إلى حيز العدم، فهذا لا يلزم القدح علينا لأن الأفعال تنقسم منها ما تصح إعادته وهو كلما يبقى من الأفعال كالأكوان ومثلها الأعيان لكنها خاصة بالله تعالى فلا يقدر على إعدامها إلا الله تعالى القادر على إيجادها، والأكوان مسلم أنا نقدر على إعدام ما قد أوجدناه منها كالقيام والقعود والحركة والسكون،ومنها ما لا يبقى بل يعدم في الوقت الثاني إلا لتجدد الإيجاد كالأصوات والآلام فلا معنى لإلزامنا إعدامه، وإن أردتم أن يفعل ثانياً عين ما فعل أولاً، فهذا تحصيل حاصل وهو محال في نفسه من أي فاعل كان، وإن أردتم أن يفعل ثانياً مثل ما فعل أولاً، فمسلم فإن أحدنا إذا قال بسم الله في الوقت الأول فهو يقدر على مثلها في الوقت الثاني. وبعد فهذا وارد عليهم في الكسب فما أجابوا به فهو جوابنا.
قالوا: لو كان أحدنا محدثاً لِفِعْل لقدر في الوقت الثاني على فعل ما قدر عليه في الوقت الأول،والمعلوم أن من كتب حرفاً فإنه لا يقدر أن يكتب مثله من كل وجه.
قلنا: ولِمَ وجب أن من فعل فعلاً وجب أن يفعل مثله في الوقت الثاني، فإن أقاسوه على الباري تعالى منعنا الجامع لأن القديم قادر بذاته، فيصح منه تعالى كل فعل في كل حين، والعبد قادر بقدرة يجوز عليها الزيادة والنقصان والعدم والبطلان وتتعلق بمقدور دون مقدور على أن الكاتب الماهر يسوي بين حروفه حتى يلتبس بعضها ببعض وإن وقع اختلال فلجواز أن يتغير حال القلم أو يحمل من المداد أكثر أو أقل مما حمل أولاً، وبعد فهذا وارد عليهم في الكسب فما أجابوا به فهو جوابنا.
قالوا: سبق في علم الله أن العاصي يفعل المعصية فلو لم يفعلها لكشف عن الجهل.(1/450)

90 / 311
ع
En
A+
A-