الفلاسفة: المؤثر في العالم علة قديمة
فالفلاسفة يقولون: صدر عنها عقل وعن العقل عقل والفلك الأعلى، ونفس فلك وهو الذي يعبر عنه المسلمون بالعرش، ثم صدر عقل ثالث عن العقل الثاني، والفلك الذي دون الفلك الأعلى، ونفس فلك الذي يعبر عنه المسلمون بالكرسي، ثم صدر عقل وفلك ونفس فلك وهو السماء الرابعة، ثم كذلك إلى السماء الدنيا فصارت العقول عشرة والأفلاك تسعة وأنفسها تسعة والعقل العاشر الذي في السماء الدنيا عندهم هو المتولي عالم الكون والفساد وما يقع في الأرض من الإحياء والإماتة والنباتات وسائر التأثيرات بواسطة حركات الأفلاك وطبائعها.(1/41)
الباطنية: صدر عن العلة القديمة السابق وعن السابق التالي
والباطنية قالوا: صدر عن العلة القديمة السابق، وعن السابق التالي، ثم صدر عن التالي النفس الكلية، ثم تحركت فحصلت الحرارة، وسكنت فحصلت البرودة، وتولد من الحرارة يبوسة، ومن البرودة رطوبة، وتولدت الأصول الأربعة التي هي: الماء والهواء والنار والتراب، وحصلت منها سائر الأشياء بالتوالد بواسطة امتزاج الطبائع الأربع واعتدالها، وسَمعتُ مَن ينتسب إليهم ويتدين بالإسلام يقول معتذراً لهم إنما أرادوا بالسابق والتالي اللوح والقلم، وبالعلة القديمة الله تعالى، والمسلمون يقولون أول ما خلق الله اللوح والقلم، فالخلاف في العبارة، فقلت له: هذا تلبيس إذ لا يجوز أن يقال للباري تعالى علة، ولأن اللوح والقلم على قول من يقول بهما من المسلمين لا قدرة لهما ولا تأثير لهما في وجود شيء، والباطنية يسندون التأثير إلى السابق والتالي ولا يصفون الله تعالى بأنه قادر عالم حي، قالوا: لأنه تشبيه، ولا أنه غير قادر عالم حي لأنه تعطيل، فأين مقالتهم من مقال المسلمين فأُنكر عنهم ذلك ولا شك في شهرة ذلك عنهم، ومن ثمة لم ينازع في كفرهم أحد من الفرق الإسلامية.
الطبائعية: التأثير للطبائع الأربع
وكالطبائعية قالوا: التأثير للطبائع الأربع المذكورة، ومنهم من يقول التأثير للأصول الأربعة القائم بها تلك الطبائع فطبع الماء البرودة، وطبع النار الحرارة، وطبع التراب الرطوبة، وطبع الهواء اليبوسة.(1/42)
الموحدين: أن الله تعالى خلق الأصول الأربعة
وعند الموحدين: أن الله تعالى خلق هذه الأصول الأربعة وألزمها تلك الطبائع ولا تأثير لها في شيء، إذ يُشترط في المؤثر أن يكون قادراً عالماً حياً ضرورة، وبالضرورة أنها ليست بقادرة ولا عالمة ولا حية وإنما يُحدث الله سبحانه تلك التأثيرات والانفعالات عند وجود شيء من تلك الأجسام وما فيها من الطبائع والخصائص بتأثيره وتدبيره وحكمته بمجرى العادة بمشيئته وإرادته على وجه إن شاء فعل وإن شاء ترك.
دليله: أنه قد يختلف ذلك الأثر في بعض الأحوال مع وجود شيء من تلك الأصول، ألا ترى أن كثيراً من الأراضي يحصل فيها من النباتات والثمار المختلفات ما لا يحصل في الأخرى، وفي بعض فصول السنة ما لا يحصل في الأُخر، وبعض النباتات تحصل في فصول السنة على سواء كالكراث ونحوه، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير.
المنجمة: التأثير للنجوم
وكالمنجمة: يضيفون التأثيرات إلى النجوم السبعة قالوا: وفي كل سماء منها نجم أعلاها زحل وأدناها القمر كما قال الشاعر:
زَحَلٌ شَرَى مريخَه من شمسِه .... فتزهَّرَت بعَطَاردٍ أقمارُ(1/43)
الثنوية: التأثير للنور والظلمة
وكالثنوية: ينسبون التأثيرات ويضيفونها إلى اثنين وهما النور والظلمة، وكل خير فمن النور بطبعه ولا يقدر على خلافه، وكل شر فمن الظلمة بطبعها ولا تقدر على خلافه، وكذلك قالت المجوس في يزدان ويعنون به الباري تعالى وإهرمن ويعنون به الشيطان.
فهذه تفاصيل مقال أهل الإلحاد، وإنما تعرضنا لذكرها ليتضح للناظر ويظهر له معنى كلام المؤلف عليه السلام في الاستدلال على إثبات الصانع تعالى، وبطلان تلك التخيلات الفاسدة، والأوهام الشاردة عن واضح الدليل، والله يهدي إلى سواء السبيل ولله القائل:
ونذيمهم وبهم عرفنا فضلهم .... وبضدها تتبين الأشياءُ
قال عليه السلام :[ فإن قيل لك: بم ]، أصلها ما الاسمية وترد في الخطاب تارة للاستفهام والسؤال عن ماهية الشيء أو سببه، وتارة للإخبار عن عظم الشيء وكثرة كميته، ثم أدخل عليها حرف الجر فإن كانت استفهامية حذفت ألفها نحو: ?فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا?{النازعات:43}، ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ?{آل عمران:159}، ?عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ? {النبأ:1}، وكما ذكر في المختصر، وإن كانت خبرية أبقيت الألف على حالها نحو ?مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ?{نوح:25}، ?بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ?{الحج:10}، ?جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ?{سبأ:17}.(1/44)
حكم معرفة الله
[ عرفت ذلك ؟ ]، والمعرفة: الاعتقاد الذي يكون معتقده على ما تناوله مع سكون النفس، فالاعتقاد جنس الحد يدخل تحته سائر الاعتقادات، وقولنا: الذي يكون معتقده على ما تناوله خرج به الظن الفاسد وهو الجهل المركب، وقلنا: مع سكون النفس، خرج به الظن الصحيح، فإنه وإن كان معتقده على ما تناوله لكنه لا يسمى معرفة لأجل عدم سكون النفس إليه، قيل: وتسمى علماً، ودراية، وفهماً، وفقهاً، وأنها مترادفة، والأظهر خلافه إلا أن بينها تلازماً من جهة العموم والخصوص، فالعلم أعمها لأنه تجلي الشيء ووضوحه وعدم خفائه سواء كان عن اعتقاد كعلم أحدنا أم لا كعلم الباري تعالى، والمعرفة: العلم الاعتقادي فكانت أخص، والدراية: العلم بالشيء ممن شأنه أن يجهل، والفهم: سرعة إدراك الشيء بعد جهله، والفقه: إدراك ما فيه غموض، وبهذا لا يصح أن يطلق شيء منها على الله تعالى إلا العلم، فإن أطلق شيء منها عليه فمجاز عن العلم من باب استعمال المقيد في المطلق، هذا ولا خلاف أن معرفة الله تعالى واجبة على كل مكلف ذكرٍ أو أنثى حرٍ أو عبدٍ، وإنما الخلاف هل وجبت شكراً أو لطفاً، وهل واجبة على التفصيل في كل مكلف أم على الإجمال في كل مكلف، أم يفصل بين العلماء والعوام، فحكي في شرح الأساس عن قدماء أئمتنا عليهم السلام وأبي علي من المعتزلة: أنها وجبت شكراً بمعنى أنها شكر للباري تعالى في مقابل النعم، لأن شكر المنعم واجب عقلاً، والمعرفة شرط وشطر في صحة أدائه لأنه لا يتم توجيه شكر المنعم، ولا يتأتى إلا بعد معرفة المشكور، ولم يحك أنها وجبت لأجل اللطف بمعنى أنها وجبت لما فيها من اللطف للمكلف في القيام بما كلف لأدائه من الواجبات وتركه من المحرمات إلا عن سائر المعتزلة، لكن يفهم من حكايته القول الأول عن القدماء فقط أن في المتأخرين من أئمتنا عليهم السلام من يوافقهم على ذلك بمعنى أنها لطف للمكلف في القيام بما كلفه من سائر الواجبات، وأما القرشي(1/45)